لأن ليس بيد واشنطن وباريس لتنفيذ القرار 1559 أي آلية عملية، كان لا بدّ من شراء الوقت، وتوظيف القرار كورقة تفاوضية يمكن ترتيب أثمان على وضعها في التفاوض تحقق موقعاً متقدماً تراكمياً لأصحابها، فلم تتمّ القطيعة مع الرئيس رفيق الحريري، بل حلّ الفتور، بسبب موقفه المؤيد لتمديد ولاية الرئيس إميل لحود، انطلاقاً من أنّ موافقته أجهضت فرصة كسر الإرادة السورية في لبنان، التي وضعت خطتها مع رفض باريس وواشنطن لتغطية وصول المرشح الوسط جان عبيد إلى الرئاسة والإصرار على التعامل مع انتخابه كأنّ التمديد قد حصل، لتدفع سورية دفعاً إلى التمديد أو تفقد مهابتها، وتكسر إرادتها، هنا تصير مسؤولية الرئيس الحريري بتنفيذ ما كان منتظراً منه وفقاً لمواقفه المعلنة برفض التمديد، الذي يسقط في المجلس النيابي من دونه، ولأنّ حسابات الحريري كانت عكس حسابات حلفائه الذين يريدون حشره في الزاوية، بينما يريد هو توظيف ضغوطهم للحصول على ثمرة منع التمديد، وقد حصل عليها ولم يستطع نيل مقابلها من حلفائه بوقف حملتهم الحربية ضدّ سورية، فوجد نفسه مضطراً للسير بالتمديد، ومن يسير بالتمديد ويدير ظهره لفرصة الدعم الدولي في هذه اللحظة لو قال لا للتمديد، لن يفعل العكس بالذهاب إلى الانتخابات النيابية الأقلّ إثارة للاهتمام وفي نيته معركة كسر عظم مع سورية بشّرنا بها مروان حمادة في إفادته، كاشفاً عما كان يفكر الحريري في سرّه، والله وحده العالم ما في القلوب، من دون أن يكلف حمادة نفسه عناء إبلاغنا كيف لمن قبل التمديد عمداً وخوفاً وفقاً لروايته أن يذهب إلى معركة أصعب وأقسى من دون غطاء دولي مشابه، وهو لا يرفّ له جفن.

كان ترشيح الحريري لرئاسة الحكومة، قد صار عنواناً لمرحلة ما بعد التمديد، وكان الحريري متحمّساً، وقد عبّر عن حماسته بأن كرّر للمرة الثانية ما كان أسماه في العام 2002 مرحلة غسل القلوب مع الرئيس لحود، وهي التسمية التي تصدّرت الصفحة الأولى من صحيفة «النهار» يومها، بطلب من مروان حمادة وفقاً لرغبة الرئيس الحريري، أليس كذلك يا مروان؟

حمل الحريري إلى قصر بعبدا ملفاً يتضمّن مرسومين سبق وشكلا عنواناً للتأزم بينه وبين الرئيس لحود طوال سنوات، هما مرسوما ضمان الشيخوخة ووسيط الجمهورية، وقال للحود هذا عربون ثقة لنفتح صفحة جديدة، وأنا صادق النية بعدم العودة إلى المواجهة، وإنْ حدث وورد ما يوحي بشراكتي بأيّ كلمة تنال منك فثق أنها عملية دسّ للوقيعة بيننا، وفي اليوم الثاني تصدّرت صحيفة «الشرق» المقرّبة من الحريري مقالة عدائية للحود، فبادر الحريري إلى الاتصال باكراً مستنكراً المقالة، التي تبيّن لاحقاً أنّ عبد الحليم خدام كان من أوحى بها.

تهيّأت الأجواء لمرحلة العهد الأولى عندما تنتهي الولاية الأولى وتبدأ الولاية الممدّدة، ليكون الرئيس الحريري رئيساً للحكومة، فكان التفاوض يجب أن يبدأ لاستثمار هذا المناخ دولياً ووضع الضوابط التي لا تسمح للحريري بقطف ثمار حملة الخارج والداخل لحساب موافقته على التمديد، فباريس وواشنطن والرياض ومن يتبعها في الداخل لا تشتغل عند الحريري، وليس وارداً أن تتركه يوظفها لحسابه في السلطة، فوصل تيري رود لارسن إلى بيروت يحمل مشروعاً يحاول التذاكي باستخدام شعار الحريري عن الطائف هو القرار 1559 مع خريطة طريق توافقية لتطبيقه.

الخطة تقوم على استثمار القرار 1559 لتقديم مشروع صفقة يعرض على سورية، قوامه القول إنّ اتفاق الطائف مقبول كأساس لتحقيق ذات الأهداف التي نصّ عليها القرار، وأنه بالنسبة إلى الوجود السوري فقد نصّ الطائف صراحة على إعادة انتشار آن أوانها وسورية تقول إنها بدأت تنفيذها، ويمكنها وضع خطة زمنية لاستكمالها حتى بلوغ قواتها منطقة البقاع ما عدا مناطق لها قيمة أمنية خاصة يتفق عليها مع الحكومة اللبنانية، وينصّ عليها اتفاق الحكومتين الذي يحدّد مدة قابلة للتجديد برضا الحكومتين لبقاء القوات السورية في البقاع، لكن بالنسبة إلى حلّ الميليشيات، فقد استثني من تطبيق الطائف، ما جرى اعتباره سلاحاً مقاوماً للاحتلال «الإسرائيلي»، وهذا الاحتلال لم يعد موجوداً وفقاً للأمم المتحدة والقرار 425، وما تبقى يعالج برعاية أممية من تحفظات لبنانية على الخط الأزرق، ولأنّ تيري رود لارسن هو من نسّق رسم الخط الأزرق عام 2000، جرى تكليفه مهمة القرار 1559، ليقول للقيادة السورية، إنّ القرار يصبح إطاراً لتعاون سوري دولي إذا قبلت سورية مهمة متابعة حلّ الميليشيات في بند سلاح حزب الله، وتعتبر قواتها شرعية في لبنان وفقاً للاتفاق الذي سيسهّل الخارج كله وضعه وتطبيقه وتأمين التغطية له بقرار دولي مشابه للقرار 1559.

كان قبول الحريري برئاسة الحكومة محفوفاً بمخاطر التصادم مع مهمة تيري رود لارسن، المعرّضة للفشل في لبنان وسورية معاً، ومن جهة مقابلة كان عليه بحسابات الداخل أو الخارج أن يتخطى العقدة التي يمثلها موقع النائب وليد جنبلاط من الحكومة الجديدة.

وصل لارسن وجال جولته، وحاول بذكاء التحقق من رواية الحريري حول قبول سورية ولحود لرئاسته للحكومة، فقدّمها بصيغة طلب من الرئيس الفرنسي جاك شيراك علّ الرئيسين بشار الأسد وإميل لحود يتعاملان مع هذا الأمر بحذر مجدّداً، أو ينفيان التفكير بذلك فيعود من حيث أتى، ولما التقى الرئيس لحود ووجده مهتماً ومنفتحاً على حكومة برئاسة الحريري تيقّن من أنّ الطريق نصف سالكة إلى دمشق، وهنا هاتفني مسؤول الإعلام في الأمم المتحدة في بيروت نجيب فريجي، عارضاً رغبة صديقه لارسن تكرار لقائنا اليتيم في عام 2000 أثناء مفاوضات الخط الأزرق الذي كان مخصصاً يومها ليسمع شروحاتي حول لبنانية مزارع شبعا، وهي الرؤية التي كنت قد قدمتها على قناة «أل بي سي» في حوار عبر برنامج «كلام الناس» مع الإعلامي مارسيل غانم قبل الانسحاب الإسرائيلي بشهرين، وبحضور وزير الخارجية السابق فارس بويز، وكان فريجي نفسه من نسّق ذاك اللقاء مثلما نسّق فريجي لقاء آخر بيني وبين الأخضر الإبراهيمي، الذي فاتحني بعرض تولي مهمة رفيعة في منظمات الأمم المتحدة.

في لقائنا عرض لارسن رغبته بسماع موقفي وتحليلي حول التمديد للرئيس لحود وعلاقته بالرئيس الحريري، والعلاقة بين الحريري والتمديد، ونظرتي إلى القرار 1559 والحلول الممكنة كاشفاً أنه سيلتقي في اليوم الثاني الرئيس بشار الأسد، وفقاً لموعد مسبق، وبعدما شرحت آرائي المعروفة التي لن أعيدها هنا، ومحورها أنّ الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» هو محور تفكير الرئيس الأسد ونظرته إلى دور قواته في لبنان، وأنه إذا خيّر على سبيل الافتراض، بين بقاء جيشه كآلة نفوذ لدولته في لبنان خارج مقتضيات الصراع مع «إسرائيل»، وبين سلاح المقاومة سيختار حكماً أن تبقى المقاومة، فكيف تتخيّلون أن يقبل تولي مهمة نزع سلاحها بواسطة جيشه؟

ذهب لارسن إلى سورية وعاد بخفي حنين، فدمشق هي دمشق والأسد هو الأسد، وصارت العقدة الأولى في طريق الحريري إلى رئاسة الحكومة، كيفية الحفاظ على الغطاء الدولي لترؤسه الحكومة الجديدة، لتطلّ العقدة الثانية برأسها والتي عايشها حمادة عن قرب وتجاهلها عن عمد كما عايش مهمة لارسن وتجاهلها، والعقدة هي كيفية التعامل مع تمثيل الطائفة الدرزية في الحكومة الجديدة.

جنبلاط بتفاهم خارجي وتحالف داخلي وحساب شخصي لن يشارك في الحكومة الجديدة، ولن يشجع الحريري على ترؤسها، ولحود يتساءل كيف يكون الحريري رئيساً للحكومة وشريكاً فيها، فيحمي مصالح جنبلاط في الدولة ومؤسساتها، ويتزعم جنبلاط المعارضة ويتولى عبر الشارع والإعلام إحباط العهد الجديد وهو شريك ضمني في مغانم الحكم، وصولاً إلى القول إنّ رئاسة الحريري للحكومة يجب أن تتضمّن مشاركة جنبلاط، وبعد تقييم ونقاش، يقابله أصلاً بداية تردّد الحريري في القبول والظهور بمظهر من باع حليفه الأقرب وحلفاء حليفه، حسم لحود الموافقة على ترؤس الحريري للحكومة من دون جنبلاط، ومشاركته، لتصير العقدة من يمثل الدروز، فلا يستطيع الحريري أن يرتضي رفض جنبلاط المشاركة من جهة، ويمنع توزير خصومه السياسيين الدروز من جهة أخرى، لكن إذا كانت رئاسة حكومة بلا شراكة جنبلاط معضلة تصل حدّ الشعور بخيانة الحليف، فكيف يمكن للحريري أن يبدو قد تخلى عن جنبلاط وغطى توزير خصومه في حكومة يترأسها؟

حسمها الحريري متأخراً، الاعتذار عن رئاسة الحكومة وقيادة معارضة في الانتخابات تعيد إنتاج مشهد الانتخابات العام 2000، وقد قالها هذه المرة للحود بدلاً من أن يقولها عبر الشارع.

غداً الانتخابات النيابية، أولاً وأخيراً قانون وتحالفات.