على مدى أربعة أيّام، أدلى النائب ​مروان حمادة​ بشهاداته أمام المحكمة الدوليّة في لاهاي. فأخذتنا قراءته أو شهادته السياسيّة إلى حقبات حفرت عميقًا في البنية اللبنانيّة، ونالت حيّزًا طويلاً من الجدل والنقاش، حيث لا نزال في ظلّه مستوون. ما لفت النظر في بنية الشهادة وتسلسلها المتين، أنّ صاحبها وهو المعروف بحصافته ورصانته وعمق رؤيته وبعد نظره ومدى اتزانه، خلا من التجرّد في التوصيف السياسيّ الذي تتطلّبه عادة سلوكيّات الشهادة في مناسبات كهذه. فأمعن وأوغل في التوظيف السياسيّ الهادف، بحيث جوّف المحكمة من مضمونها العادل والتائق لكشف الحقيقة، الذي يفترض أنّها مؤسَّسة عليه في المبدأ، كما جوّف أيضًا الخطاب السياسيّ لرئيس الحكومة الراحل ​رفيق الحريري​ من الوقائع الواسعة المدى، فأظهره، في مرحلة ما قبل اغتياله، شديد الخضوع للاحتلال السوريّ فيما مسيرته خلت منه، ومن إطلاقيّته، ونحت باتجاه التعاون المطلق، فحقّقت للسوريين وبخاصّة في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، ما لم يحققه وزير الخارجية في سوريا آنذاك فاروق الشرع، من إنجازات على مستوى المصالحة مع فرنسا جاك شيراك، وعلى مستوى دخول سوريا في الشراكة اليورو-متوسطيّة.

واستمدادًا لشهادة حمادة أمام المحكمة الدوليّة، مصدر سياسيّ عرف الحريري عن كثب، تساءل بوضوح، "هل الخوف هو السّمة الفضلى التي عرف بها الشهيد، أو أنه عرف بفضيلة الحكمة المقرونة بالشجاعة، والتي جعلته طيلة مسيرته السياسيّة ساعيًا دومًا إلى ما هو توليفيّ وتوفيقيّ، من دون المساس بالجوهر الذي آمن به، ألا وهو المقاومة بوجه إسرائيل؟ أليس هو من شرّع سلاح المقاومة في كل البيانات الوزارية التي صدرت عن الحكومات التي رأسها، ودافع عن شرعيّتها بصلابة وقوّة، ممّا حدا بعلاقته مع الحزب تصير أكثر متانة ومنعة، مزدانة بثقة واضحة لا غيوم فيها أو شوائب تذكر؟ ما يمكن ذكره عن رفيق الحريري أنّه كان يتقن فنّ المناورة والدبلوماسيّة المرنة في كلّ شيء، مع الأصدقاء والخصوم، فحافظ على الصداقة مع أصدقائه، وتقرّب من الخصوم فأصبحوا له أصدقاء من أمثال رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجيّة ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، ما عدا المسائل الجوهريّة والوجوديّة والتي رفض المساومة عليها أو جعلها، تاليًا، تحت مجهر المناورات أو المقايضات السياسيّة". ويذكّر هذا المصدر بكلام صدر عن بعض السياسيين اللبنانيين، إبّان اغتيال الحريري وقد غدوا من بعده أقطابًا، بأنّ دمه حرّر لبنان من الاحتلال السوري، فعقّب قائلاً: كيف يمكن لأيّ عاقل عارف بعمق بالواقع اللبنانيّ، أن يبتلع هذا القول خاليًا من شكوك والتباس؟ لقد ثبت، وبلا لبس، في المعطى السياسيّ المحليّ والإقليميّ والدوليّ، بأنّ اغتيال رفيق الحريري هدف بكلّ وضوح إلى تنفيذ القرار 1559، أيّ إلى تحرير لبنان من القبضة السوريّة، فهل يعقل أن يقوم النظام السوريّ، إذا ما تبنينا تلك النظريّة، وهي ليست بمسلّمة، بالانتحار على أرض لبنان من خلال عمليّة الاغتيال؟ ثمّة ثغرة في هذا المنطق لم يستطع مروان حمادة أو سواه ردمها أو سدّها، بإخراج معطى جديد يستند على وقائع، وليس على نزعات شخصيّة عدائيّة أو ربّما توظيفيّة بالعمق السياسيّ والأمنيّ بالمعنى الداخليّ والخارجي".

وأردف المصدر قائلاً: "على افتراض أن العلاقة ساءت بين الحريري وسوريا، غير أن سوريا الدولة تعرف بواقعيّة مطلقة، بأنّ اغتيال رجل عملاق كهذا، لا يمكن أن يكون عابرًا، بل حتمًا سينفجر كزلزال يهزّ الكيان اللبنانيّ، ولا ينحصر في جوفه. إذ الغاية الجوهرية من اغتياله أن يهتز الكيان المشرقيّ كلّه من لبنان إلى سوريا فالعراق... كما أنّه، وفي مضمونه الواقعيّ، البداءة المعدّة لحمم تسيل من هذا الزلزال الرهيب، فتحرق الأخضر واليابس بحروب مذهبيّة متنقلة، وتنتهي بإلغاء الحدود بين الدول مع تكثيف القوى الإسلاميّة والتكفيريّة حراكها الدّامي، كأوراق معدة ومستهلكة في بنية المنطقة، نتيجة لهذا العمل". وردًّا على حمادة ذهب المصدر إلى القول، "ليس لسوريا أيّ مصلحة بقتله، بل هي تضرّرت كما تضرّر اللبنانيون وأكثر. ومع الإقرار بأنّ الوصاية السوريّة استهلكت لبنان بشكل مقيت في حقبات واضحة ما بعد الطائف، لكنّ اغتيال الحريري أحرق وجهها. فجاء ذلك تبيانًا وتجسيدًا لمنطق وزيرة الخارجية الأميركيّة آنذاك كوندوليزا رايس القائل بالفوضى الخلاّقة، وهي فحوى الشرق الأوسط الجديد الذي بني على هذا القرار، كمقدّمة للحرب الإسرائيليّة التي شنّت على لبنان في تموز 2006، بعد عام على اغتيال رفيق الحريري. فولد القرار 1701 من أحشاء تلك الحرب، إستكمالا للقرار 1559. القرار الأخير أنهى الاحتلال السوري على لبنان ولكنّه جعله تحت مجموعة وصايات لا تزال تلقي بثقلها حتى يومنا، وتبيح الفراغ في المؤسّسات الدستوريّة". وسأل المصدر عينه النائب حمادة، "ما هي الإثباتات الحقيقيّة التي تؤكّد بأنّ رفيق الحريري وضع نصب عينيه تنفيذ القرار 1559، وهو المؤمن بالدور السوريّ في لبنان وتعاون معه في الانتخابات عام 2000؟" وينهي المصدر مطالعته: "لم يثبت على الإطلاق بأن للحريري خصومات جوهريّة مع السوريين تستدعي قتله بهذه الوحشيّة المطلقة، بل ثمّة خصومة بوجه العماد إميل لحود مذ كان قائدًا للجيش ورفض هبة الحريري للجيش والتي اعتبرها رشوة. منذ ذلك الوقت، اهتزّت العلاقة اهتزازًا كبيرًا، ولم يعد ثمّة تمازج بينهما. وحين قرّر السوريون التمديد له، والذي اعتبره كثيرون مخلاًّ بالنظام السياسيّ الديمقراطيّ، اعترض بالشكل ولم يعترض بالمطلق. والدليل أنّه نزل إلى المجلس ومدّد مع نوّابه، فلو افترضنا أنّه تعرّض لتهديد، أما كان له أن يعترض ويرفض ويسجّل موقفًا كبيرًا للتاريخ كما سجّل النائب الراحل الدكتور ألبير مخيبر موقفًا جوهريًّا عام 2000 حين فجّر قبل سواه قنبلة انسحاب الجيش السوري من لبنان، وكان السوريون في أوج إمساكهم بالقرار السياسيّ والأمنيّ للبلد؟"

إنّ قراءة هذا المصدر لشهادة مروان حمادة وللمحكمة الدوليّة، تحدو بالفرقاء السياسيين، للاعتقاد بأنّ اغتيال رفيق الحريري لم يكن لصالح السوريين على الإطلاق. واللاعبون الصغار كما الكبار يدركون ذلك. ولا بدّ من سؤال رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لماذا حين اعتلى سدّة رئاسة الحكومة برّأ بشّارًا من دم أبيه في حديثه لجريدة الشرق الأوسط، وزار قصر المهاجرين وحلّ ضيفًا عزيزًا على صاحبه؟ هل تمّت الزيارة عن إدراك أو عن توظيف متوازن ما بين السوريين والسعوديين؟ ولماذا بعد خروجه عاد فاتهمه بالإجرام؟

وظيفة تنفيذ القرار 1559، لم تلقَ على عاتق رفيق الحريري الحيّ، بل عاتق رفيق الحريري الشهيد. لتنتقل المنطقة بأسرها باستشهاده إلى العاصفة الهوجاء الهابّة في معظم ربوع المشرق العربيّ.