كان خيرًا للمجتمع الدوليّ والمشرقيّ-اللبنانيّ، أن تنتهي المفاوضات الأميركيّة-الإيرانيّة إلى المزيد من الضبابيّة وليس إلى الوضوح، فقد اكتنفتها أجواء إيجابيّة أشاعها كلّ من وزيريّ خارجيّة البلدين جون كيري وأحمد جواد ظريف. ليست الإيجابية البادية على محيّا الرجلين، والمنطق السياسيّ عندهما حالة ظهور إعلاميّ أو دعائيّ عابر، بل هو نظرة إيديولوجية جديدة بدأت عواملها تنساب في بنية البلدين، أقلّه من ناحية الرؤية المطمئنة وصولاً إلى التعاطي المباشر بقراءة الواقع في منطقة الشرق الأوسط وما تمثّله التنظيمات التكفيريّة من خطر وجوديّ على المكوّنات واستقرارها.

الكلام عن النظرة الإيديولوجيّة هو الجوهر في العلاقة بين الولايات الأميركية وإيران. ذلك أنّ المفاوضات التي دارت والتي تأجلّت انطلقت من هذه النظرة الرحبة المنسابة في المجتمعين الأميركيّ والإيرانيّ من خلال تبادل النظرات والرؤى. فأميركا في نظر الإيرانيين لم تعد الشيطان الأكبر، وإيران لم تعد بالمطلق الدولة المارقة والإرهابيّة. فقد تلاشت الألفاظ والصفات الموجعة، وقد كانت حقول ألغام انفجرت تباعًا في متن العلاقة الإيرانيّة-الأميركيّة، وتأسست عليها أدبيات الثورة الإسلامية الممتدة إلى لبنان.، وظهرت مكانها عبارات جديدة ورؤى جديدة يسّرت كثيرًا المفاوضات بين الطرفين، حيث قال عنها الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني: "لم يتمّ تحويل النجاح في المفاوضات إلى اتفاقات".

ماذا عنى كلام روحاني في هذا الاصطفاف؟ ليس التقوقع في حروفية المفاوضات هو المبتغى. بما معناه أنّ تخصيب اليورانيوم ليس هو الهدف. هو حالة تقنيّة تختص بالأمن العالميّ وأمن الشرق الأوسط، ولكنّه غير مهيمن على مسرى انسكاب الرؤى السياسيّة على أرض الواقع المتفجر في المشرق العربيّ. المهمّ هنا أنّ المفاوضات نجحت، ولم تتحوّل إلى اتفاقات. نحجت في دحض الالتباسات وردم الثغرات ومدّ شبكة أمان في صلب العلاقة التي يجب أن تؤول إلى احتضان تسوويّ للعراق وسوريا واليمن ولبنان، بالعناوين والتفاصيل.

ليس الأميركيون أغبياء غير مدققين في الرؤى الاستراتيجيّة وفي الأوراق الأساسيّة التي جنتها إيران وقد باتت في حوزتها، وما أدّت إليه السياسة السعوديّة وقبلها القطرية، في الصراع داخل سوريا والعراق. إنّ انغراس داعش وجبهة النصرة في الصراع السوري والعراقي وصولاً إلى لبنان، أسّس بحسب خبراء متابعين لهذا التحوّل الجذريّ الكبير. وقد طرح بعض الخبراء المتابعين سؤالاً ليس ساذجًا إذا ما تمّ التمعّن به، "ما سرّ الانقلاب الذي حصل في اليمن باستيلاء الحوثيين على السلطة؟ ويوغل هؤلاء بالقراءة ليخلصوا، بأنّ الانفعال السعوديّ المطلق، والذي استفحل في الآحاديّة وتمادى في الشخصانيّة، أوصل إلى مجموعة نتائج تمّت على حسابهم، أهمّها أنّ بعض الأوراق الإسلامويّة أفلتت من إرادتهم كتنظيم داعش لصالح الأتراك والقطريين، فقوي الدوران الأخيران باحتضان هذا التنظيم في سوريا والعراق، وحتّى جبهة النصرة التي يفترض أنّها لا تزال في حوزتهم تسري حولها بعض الشكوك في العلاقة مع السعوديّة بوجه داعش. وفي الوقت عينه أن الانفعال السعوديّ قوبل باتّزان إيرانيّ وقد وصف بالاتزان الحازم في الداخل السوريّ والعراقيّ واللبنانيّ. هذا المدى وقع بين انفعال مطلق أدّى إلى خلل قاتل وبخاصّة في العراق وسوريا، دمّر التوازن القائم في العلاقة بين المكوّنات، واتزان حازم يشاء في عمقه إعادة الاعتبار إلى التوازن الموضوعيّ، ويؤكّده حزب الله في لبنان، في علاقته مع كلّ المكوّنات الأخرى وبخاصّة المكوّن المسيحيّ.

ما لفت في هذا السياق، أنّ الأميركيين مع الجمهوريين بخاصّة بحثوا عن شرق أوسط جديد، يشبه الرواية الشعريّة لتوماس إليوت تحت عنوان "الأرض اليباب"، وبخاصّة بعد اجتياحهم العراق وبعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، ومن ثمّ الحرب الإسرائيليّة سنة 2006 على لبنان، عادوا وبعد الربيع العربيّ فاكتشفوا أنّ منطق الشرق الأوسط الجديد بالتحديد الذي وضعته كوندوليزا رايس ومعها مارتن إنديك وسواهما بحصر التعاون مع إسرائيل والسعوديّة وقطر وتركيا، أخلى المنطقة بأسرها من توازنها، رمّدها بالمطلق من دون تحديد المنطلقات والمحتويات الجديدة التي تقوم عليها. كما فهم الأميركيون أنّ نأي إيران وهي التي تملك العصب وتحوي الأوراق الجوهريّة، لم يعد يجدي نفعًا في الحفاظ على التوازن والمكتسبات. فجاءت المفاوضات ليس للكلام الحصري في اليورانيوم، بل لترميم منطلقات جديدة تقوّض الإرهاب وتحجّمه ومن ثمّ تؤسس لما يشبه بحدود كبيرة مؤتمر يالطا مع الروس والصين بعد فشل الأميركيين في المنطقة بصورة عامّة.

السؤال المطروح ما هو موقع لبنان وماذا سيجني هذا البلد الجريح من هذا المناخ الهادئ وبخاصّة أنّه قابع في الفراغ منتظرًا الشروع إلى الانتخابات الرئاسيّة؟ ثمّة علامات واضحة بدأت تظهر على الأرض اللبنانيّة بمجموعة رؤى ترجمت بحراك من هنا وحراك من هناك. لقد انسكبت الرؤى بتوازن وإزائيّة واضحة بين الأميركيين والإيرانيين بتوزيع أدوار لافت، قطبها العماد ميشال عون، الذي استقبل وفد حزب الله المتبنّي لترشيحه حتى انقطاع النفس. وبعد ذلك صرّح العماد عون في لقائه التلفزيونيّ الأخير بأن علاقته بالأميركيين جيّدة، وتشير بعض الأوساط إلى التمازج الدائم بينه وبين السفير الأميركي لدى لبنان ديفيد هيل.

كما أنّ تصريح السفير السعوديّ علي عبد الله العسيري أوحى بشكل أو بآخر بالمضي إلى تسوية واضحة حين قال بأنّ السعوديّة لا تضع فيتو على أحد من المرشحين. كلّ هذا يؤشّر بأنّ لبنان ماض إلى تسوية تنقذه من الفراغ، وتفتح السبل إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة بالمقاييس والمعايير التي تبقى أقوى من التكتيك الذي يتقنه فرقاء سياسيون في الداخل، فهي ضرورة استراتيجيّة على المستوى الداخليّ يمكن توظيفها لإعادة التوازن إلى المكوّنات اللبنانيّة في عمق التكوين الداخليّ. يشير خبير سياسيّ بأنّ الطريق فتحت نحو إرساء قاعدة جديدة تقوم على انتخاب رئيس للجمهوريّة يمثّل الوجدان المسيحيّ بأكثريّته، أي له حيثيّته الكبرى، فيتوازن ذلك مع كلّ الطوائف المكوّنة للكيان اللبنانيّ.

هذه القاعدة بدأ الأطراف يتلمسونها رويدًا رويدًا، ويقول هنا سفير سابق، إنّ لبنان هو المحتوى لتوازن سينطلق منه إلى المنطقة كلّها، وبدء ذلك تأمين الاستحقاق الرئاسيّ برئيس يعطي للميثاق اللبنانيّ والشراكة معناها الكيانيّ والوجوديّ.