فورَ بدء اجتماعات فيينا بين إيران والدوَل السِتّ سُجّلت حركة ديبلوماسية ناشطة في المنطقة، بعدما سادت أجواءٌ حولَ احتمال التوصّل إلى اتّفاق في شأن الملف النووي الإيراني أو إلى حَدّ أدنى بإعلان نيّات أو مبادئ عامّة تشكّل في مضمونها اختراقاً جدّياً، وتعطي إشارةً إلى دخول الساحة الشرق أوسطية في مرحلة جديدة.

وكانت الإشارات المتلاحقة التي سادت المنطقة خلال الأسابيع الأخيرة قد عزّزت الانطباع بأنّ شيئاً ما سيحصل، لكن مع انتهاء هذه الاجتماعات والإعلان رسمياً عن تمديد مدّة المفاوضات تراجعَت هذه الحركة على أساس استنتاج أوّلي بتمديد الأوضاع الحالية حتى نهاية حزيران، وهو الموعد النهائي لإعلان الاتّفاق أو ربّما للإقرار بالفشل.

ومن الطبيعي أن يكون لبنان أحدَ هذه الدوَل التي تأثرَت بالمدّ والجَزر حول الملف النووي، ذلك أنّ الأوساط الديبلوماسية العربية، ولا سيّما منها الخليجية تحديداً، كانت قد تحدّثت عن وجود خريطة طريق لمرحلة ما بعد حصول التفاهم حول النووي تقضي بالشروع فوراً في وضع ملفّي اليمن ولبنان على طاولة التسويات بعدما تمّ ترتيب ملف السلطة في العراق.

وكان الهَمس السائد يشير الى أنّ طرح ملفّي اليمن ولبنان لا يعني بالضرورة تلازُم المسار بينهما، بل إنّ التوقّعات كانت تشير إلى تسوية سريعة للبنان تؤدّي في نهاية المطاف الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية في رأس السنة.

ووفقَ هذه الحسابات طُرِحت مسألة فتح قنوات الحوار بين تيار «المستقبل» وحزب الله، والذي كان قد بدأ من خلال رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي استبشَر خيراً وتحدّث باستمرار عن وجود معطيات لديه تدفعُه الى التفاؤل، واندفعَ الى تحضير المسرح من خلال دعوة اللجنة النيابية المختصَة الى درس قانون جديد للانتخابات، لأنّه سيكون بنداً أساسياً في أيّ تسوية سياسية تؤدّي إلى وصول رئيس جديد إلى قصر بعبدا.

وفي موازاة ذلك بدا رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون مرتاباً من الحركة الخارجية الدائرة والمواكبة الداخلية لها. بالتأكيد هو يدرك أنّ التفاهم الدولي - الإقليمي في حال حصوله حول الملف اللبناني سيفتح الطريق أمام تطبيقِه آخذاً في طريقه أيّ معارضة داخلية له.

وتبقى صورة «اتّفاق الطائف» واجتياح قصر بعبدا وسقوط الخطوط الحمر ماثلةً في ذهن الجميع. لذلك ربّما سارَ في تسويةِ الدوحة عام 2008 حين رسا التفاهم الدولي عليها.

وربّما لذلك أيضاً وتدارُكاً لأيّ تفاهم دولي قد ينجم عن التفاهم مع إيران حول ملفّها النووي، رفعَ عون السقفَ فجأةً بعدما اختارَ ملفّ الطعن المقدّم للمجلس الدستوري، على أن يشكّل ذلك نافذة الدخول الى التسوية الكبرى. وكانت أجواء الرابية تشير إلى تصعيد كبير في اليوم التالي، لكنّ الأجواء عادت وبردت بعدما انتهَت اجتماعات فيينا إلى لا شيء.

فالانطباع السائد الآن هو أنّ حال الجمود والمراوحة التي ستسود الساحات الإقليمية في انتظار نهاية شهر حزيران المقبل ستنسحب على لبنان، وأنّه لا بدّ من الانتظار بحَذر لأنّ المؤشّرات الإيجابية ما تزال موجودةً بدليل المواقف المعلنة للأفرقاء وفَكّ الحجز عن خمسة مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية المجمَّدة.

من هنا قد لا يتضمّن كلام الرئيس سعد الحريري اليوم الخميس الجديدَ المطلوب حول الحوار. سيُبدي إيجابيةً في هذا الشأن، ولكنّها مشروطة بإنجاز الاستحقاق الرئاسي والقتال في سوريا. أي عملياً، لا حوار قريب مع عدم العودة بالأمور إلى التشنّج.

ومِن هنا أيضاً قد يخفّف برّي من أجوائه التفاؤلية، إضافةً إلى أنّ اللجنة النيابية المعنية قد لا تتّفق على مشروع قانون انتخاب جديد، ولكن مع عدم ذهاب الأمور إلى التشنّج. ومن هنا أيضاً سيستعيد عون موقعَه السابق من دون الاندفاع إلى التسخين.

كلّ ذلك صحيح، لكن هنالك مَن استعاد نظرته التشاؤمية بعد «استراحة» لأسابيع. فبحسَب هؤلاء، محطةُ فيينا أرسَت اقتناعاً لدى الإيرانيين بأنّ واشنطن لن تنجزَ الاتّفاق حول النووي، وهي تلعب على الوقت والظروف الاقتصادية الإيرانية الداخلية الصعبة لتطويع مواقفها أكثر.

وإنّه حتى لو أراد البيت الأبيض إنجازَ اتّفاق في حزيران المقبل، فإنّ الأكثرية الجمهوريّة في الكونغرس والتي تمتلك حقّ القرار حول الأرصدة والعقوبات لن تجاريَ الرئيس الاميركي باراك أوباما، ما يعني ضرورة ترتيب الحسابات وفقَ هذا الاقتناع.

وفي المقلب الأميركي هنالك من يرى أنّ الفريق الإصلاحيّ لم يستطِع فعلَ الكثير، وأنّ تيار المحافظين نجَح في منع تقديم إيران أيّ تنازلات مطمئنة، وأنّ ما حصل في فيينا كان أكثر ما يمكن انتظاره من إيران.

وفي رأي هؤلاء أنّ المنطقة ذاهبة في اتّجاه تطوّرات ميدانية جديدة، سواءٌ في العراق أو حتى في المنطقة الشمالية لسوريا القريبة من حلب. وإنّ متغيّرات ستشمل الساحة الفلسطينية حيث تسعى بعض الدول العربية المؤثّرة، وبالتفاهم مع مصر، على إسقاط الرئيس محمود عباس وإيصال محمد دحلان مكانه كونه أقدرَ على مواجهة حركة «حماس».

باختصار، هناك حفلةُ خلطِ أوراق ستشهدها الأشهر المقبلة، ولا يمكن لبنان أن يكون بعيداً عنها. صحيحٌ أنّ المخاطر الأمنية الكبرى تمَّت معالجتُها، إلّا أنّ الجبهة البقاعية ما تزال مفتوحة، لكنّ الأهمّ ربّما يبقى في مكان آخر.

فالهدوء في العادة يشكّل حاضناً زمنياً مثالياً لتنفيذ عمليات اغتيال. والشروط هنا تبدو متوافرة: خلايا إرهابية، ونشاط لأجهزة الاستخبارات المتنوّعة، واحتقان داخليّ ولعبة إقليمية مفتوحة، وأهداف متضاربة لإحداث تغييرات في المعادلة اللبنانية الداخلية.

في أيّ حال عُمّم على مسؤولين أساسيين ضرورةُ اتّخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر.