لم يكن حجم الصدمة التي تركها تحرير عماد عياد في مقايضة سريّةٍ متقنة بقدر حجم التساؤلات التي بدأت تحزّ في نفوس الأهالي عمّا امتلكه حزب الله لتحرير أسيره بهذه السلاسة ولم تمتلكه الدولة لتحرير عكسرييها من الجرود القارسة.

ربّما يُظلَم أحد الملفيْن متى تمّت مقاربة عناصرهما من باب المقارنة خصوصًا أن عامل الخطف وحده ما يجمعهما فيما تتشعّب باقي التفاصيل التي بدت أكثر سهولةً بالنسبة الى تحرير عياد وتبدو أكثر تعقيدًا على مستوى العسكريين المخطوفين.

بمَ تتسلّح الحكومة؟

أيًا تكن الآلية التي اعتمدها حزب الله لمقايضة الجيش السوري الحرّ بعياد مقابل أسيريْن، تُبعِد الحكومة في معرض المقارنة عن نفسها كأس المفاوضات العسكريّة متسلّحةً في ردّها المبطّن على اللائمين من كل حدبٍ وصوب باختلاف طبيعة الخاطفين في كلا الملفيْن وبلائحة شروطٍ مفصّلة يصعب توفيرها بين ليلةٍ وضحاها. ليست الحكومة اللبنانية حزب الله لا كينونةً ولا أسلوبًا، وحتى الحزب لا يأخذ على نفسه في غمرة الملامات والدعوات الى تدخّله انفراديًا وعسكريًا خوض هذه المغامرة التي سيُرمى على أثرها حكمًا بتهمة تجاوز الدولة وصلاحياتها والتصرّف من عنديّاته حتى لو كانت أهدافه نبيلة.

عناصر التباين

بعيدًا من الغوص في تسويغاتٍ قد لا تستحقّها الدولة في عيون أهالٍ ملّوا سماع الذرائع وليس غريبًا أن تدفعهم سيكولوجيا الاشتياق الممزوج بخوفٍ الى إسقاط تحرير عياد على جمود ملفّ أبنائهم أو تحرّكه ببطءٍ شديد في أحسن الأحوال، لا يسهل استراتيجيًا وضع أيّ صفقةٍ ستتمّ لإطلاق العسكريين في الكفة نفسها مع صفقة عياد لأسبابٍ عدة معظمها مُعلَن: أولاً عدد الأسرى موضوع الصفقتين: في الجرود أكثر من عشرين عسكريًا أما لدى الجيش الحرّ فلم يكن سوى عيّاد مقابل أسيرين لدى حزب الله. ثانيًا، هوية الجهة الخاطفة: في الجرود ينقسم العسكريون بين “داعش” وجبهة النصرة اللتين تصعّبان المقايضة بشروطهما، أما عياد فكان في حوزة الجيش الحرّ الذي يعلم الجميع أنه يبدي ليونة أكبر في ملفات الأسر والتحرير. ثالثاً، هوية الوسيط: في الجرود تتداخل قطر وتركيا وفاعليات من عرسال والشيخ مصطفى الحجيري وهيئة العلماء المسلمين في ما يبدو أشبه بكثرة الطباخين التي تُحرِق الطبخة وتفرز فريقاً مفاوضًا لكلّ جهةٍ خاطفة، أما عياد فقلّ الوسطاء الداخلون على خطّ تحريره وحُصروا بين فعلة خير من عسال الورد ووسيط سوري على ما تسرّب. رابعاً، سيكولوجيا ذوي المخطوفين: في الجرود عسكريون يعيش ذووهم ويموتون مئات المرات يوميًا تحت التهديد والوعيد ويرضخون لضغوط الخاطفين بقطع الطرق والتصعيد، أما ذوو عياد فسمّوه شهيدًا للمقاومة منذ اليوم الأول قاطعين الطريق على أيّ محاولة ابتزاز من الخاطفين. خامسًا، آلية التفاوض: في الجرود أخبارٌ عن سير المفاوضات تتسلّل يوميًا عن تقدّم وجمود وانسحابٍ بما يشبه فوضى التسريبات و”الشوشرات”، أما عياد فعاد بصمتٍ وبصفقةٍ حافظ خلالها حزب الله على سريّة تامّة للتفاوض.

منافذ ملموسة

كلُّ تلك النقاط وعلى تباينها تجد لدى مقاربتها من الكثيرين منافذ ملموسة للحكومة تتصدّرها حقيقة أن مجموعة كتل سياسيّة متفاوتة الآراء تفاوض تحت مسمّى “حكومة المصلحة الوطنية” من أجل تحرير أبطالٍ كانوا يحاربون في الميدان دفاعًا عن هذه الحكومة ومصلحتها الوطنية، وبالتالي فإن فوضى الآراء التي عايشتها الحكومة منذ بداية الأزمة لم تصبّ في خانة تسهيل الأمور بقدر ما ساهمت في تعقيدها قبل أن يرسو الجميع بعد طول جهدٍ على مبدأ المقايضة بحذرٍ وتحفّظ و”فيتو” محسوم على بعض أسماء المحتجزين في سجن روميه. كلّ ذلك لا يسهّل على الحكومة مهمّتها في ظلّ غياب الرجل الأول الذي يحمل راية الملفّ، تمامًا بعكس التنظيم الذي ساد عملية تحرير عيّاد من قبل جهةٍ واحدة حددت ما أرادت وكانت واضحة منذ البداية فنالت ما نشدت.

فريسة “نفسيّة”

ويؤكد الخبير العسكري العميد المتقاعد أمين حطيط لـ “​صدى البلد​” أن “الملفين متقاربان في التصنيف العام إذ إن في كليهما إرهابيين مسلحين يقاتلون قوى تدافع عن وطنها. ففي عرسال عسكريون خُطفوا من مراكزهم وغير مراكزهم وبالتالي هم مخطوفون وليسوا أسرى. أما بالنسبة الى ما حصل في بريتال، فقام الجيش الحرّ بعملية عسكرية على مركز لحزب الله واستطاع أن يأسر مقاومًا”. وشدد حطيط على أن “الحديث عن مساعي إطلاق المخطوفين يفضح التباين في إدارة الملفين وبشكل متباعد، بمعنى أن الملفين متقاربان في البداية ولكن الاختلافات الرئيسيّة مرتبطة بمرحلة ما بعد الأسر: فعلى جبهة العسكريين المخطوفين كان هناك تخبّط من قبل الدولة اللبنانية وضعف من قبل الأهالي، أما على جبهة المقاومة فكان هناك قرار وتماسك وقوّة من قبل أهل عيّاد. وفي التفاصيل كانت الدولة ضائعة في البدايات كما كان هناك تياران متضاربان أحدهما يقوده تيار المستقبل ويدعو الى المقايضة بشروط الخاطفين ورُفِض رفضًا قاطعًا لأن فيه مسًا بسيادة الدولة وبمعنويات الجيش والقضاء، وثانيهما يقول إنه لا بدّ من امتلاك أوراق قوّة تؤثر على الإرهابيين قبل خوض المفاوضات، ولكن الحلّ في مجلس الوزراء لم يكن مع أيٍّ من التيارين بل كان حلاً رماديًا يقبل من جهة بمنطق التفاوض ومن جهةٍ أخرى يُحجِم عن تعيين ما يمكن أن نفاوض عليه وكيف يكون التفاوض. أما بالانتقال الى أهالي المخطوفين العسكريين فوقعوا فريسة الحرب النفسية التي شنّها الإرهابيون وتحولوا الى مجموعة من الناس منوّمة مغناطيسيًا وتتحرك من بُعد فكان ذلك بمثابة ورقة ضعف للمفاوض اللبناني وورقة قوّة للخاطفين. في المقابل، رفضت المقاومة الحديث أصلاً مع الإرهابيين لتمتلك ورقة قوة أساسيّة، فيما أعلن أهل عياد في جواب مختصر موقفهم من ضغوط الخاطفين: حسبنا ابننا شهيدًا وبدأنا تقبّل التهاني”.

مشكلة الدولة...

وأشار حطيط الى أن “المشكلة اليوم أن الدولة اللبنانية لم تحدّد بشكل واضح أوراق قوّتها وكيفية استخدامها، كما لم نفهم حتى الساعة من هو صاحب الملفّ الحقيقي والمسؤول عنه: أهو مجلس الوزراء مجتمعًا أم لجنة خلية الأزمة أم اللواء عباس ابراهيم أم الوزير وائل أبو فاعور أم الوزير نهاد المشنوق أم اللواء أشرف ريفي؟ من هو المسؤول عن الملف؟ أحدٌ لا يعرف. فيما على صعيد جبهة حزب الله تمّ تعيين شخص واحدٍ تسلّم الملفّ منذ البداية ولم يكن يُطلِع أحدًا على سير المفاوضات بل كانت علاقته محصورة بالأمين العام. عدا ذلك، وفي إطار نقاط القوة عندما خُطِف شخصٌ لحزب الله أطفأ أجهزته وأسر اثنين من الجيش الحرّ وتركه يأتي بنفسه ليفاوضه وحسم الموضوع: ميدان-ميدان، أما في موضوع العسكريين فالمأساة هي مأساة إدارة ملفّ”. وأردف: “أخيرًا، يبقى الحديث عن اختلاف الوسيط. فعندما يضع الطرف نفسه في موقع قوّة يجبر الطرف الآخر على اختيار الوسيط الموثوق منه، فيما ترجو الدولة الوسيط يمينًا ويساراً لإطلاق عسكرييها وهو لا يقبلنا، ثمّ من هو الوسيط أصلاً؟”. وما إذا كان من الممكن أن تعدي تجربة حزب الله الدولة وتؤثر إيجابًا في حلحلة ملف العسكريين ختم حطيط: “المسألة مرتبطة بإرادة وقرار وهنا أعكس السؤال: هل في لبنان جهة لديها إرادة وقرار؟ عندما تتوفر هذه الجهة يصبح للجواب معنى”.

سقوط الاعتبارات

إذاً عياد حرًا، والعسكريون باقون في الجرود يصارعون صقيعها وثلوجها. يكفي ذاك العامل الطبيعي لتسقط كلّ اعتبارات المقارنة الاستراتيجية من قاموس الأهالي المقتنعين في قرارات أنفسهم بعجز الدولة أو في أحسن الأحوال ببرودتها التي تفوق برودة الجرود حيث يقبع أبناؤهم.