كأنه أحد أعمدة قلعة بعلبك وقد فرّ منها وحيداً. نصب أثري ينتصب منفرداً على بعد نحو 7 كلم من مدينة الشمس. لا منازل حوله، لا حرس ولا ناطور، تحوطه فقط مساحة شاسعة من التراب الأحمر. كثيرون من الناس هناك لا يعرفون عنه إلا اسمه: إنه «عمود إيعات». ليس مدرجاً ضمن البرنامج السياحي لزيارة بعلبك، لكن مشهده بمحاذاة الطريق العام لبلدة إيعات، في أرض غير مأهولة، يجعلك تتوقف عنده لتتأمله عن قرب. ما هذا الشيء؟ كثيرون ممن رأوا قلعة بعلبك لم يروه من قبل، وربما لم يسمعوا عنه، لكن فردانيته تلحّ عليك بالسؤال.

لا رواية حاسمة لتاريخه الأثري. حتى رئيس بلدية إيعات، علي عبد الساتر، يقول: «قيل الكثير عن العمود، منها الراجح ومنها ما يمكن أن نضعه في خانة الميثولوجيا الشعبية». الراجح أنه كان بمثابة منارة للقوافل الآتية من بعيد، في العصور القديمة، وبالتالي حاله كحال ذاك النصب القائم في منطقة الهرمل، المعروف بـ»القاموع». لكن عبد الساتر يسأل: إن كان منارة فعلاً، فهذا يعني أن النار كانت تُشعل في أعلاه، لكي تُرى من بعيد، فكيف كانوا يصعدون إلى أعلاه لإشعال النار؟ يجيب بنفسه عن السؤال: «ربما كان حول العمود سلالم حجرية، ولكنها لم تعد موجودة الآن، ضاعت، أو شيء من هذا القبيل».

من جملة الروايات، غير الموثقة، التي تروى بين الناس وبعض الباحثين هناك، أن العمود يعود إلى زمن الملكة هيلانة أم قسطنطين الكبير. يقال إنها كانت تبني معالم في رحلتها إلى القدس، في أكثر من نقطة، فتُشعل النار أعلاها افتخاراً. وهناك من يقول إن الرومان كانوا يضعون هذه الأعمدة على الطرقات ليقيسوا منها طول المسافة إلى روما. رواية أسطورية أخرى تتناقلها الأجيال، تقول إن بنت الملك التي كانت تسكن «قصر البنات» (معلم أثري قائم) كانت «تدقّ الكبّة» على رأس العمود. يعني كانت تترك قصرها لتأتي إلى «عمود إيعات» فتصعد عليه، لتصنع الطعام، ثم تعود إلى قصرها. لكن لماذا «الكبّة» تحديداً؟ عليك ألا تسأل كثيراً، إنها أساطير، وهكذا تنقل كما هي. رواية ثالثة تتحدث عن أن بناء العمود كان لتخليد بعض المعارك التي دارت في تلك البقعة. بناه الطرف المنتصر. بعض الكبار في السن ينقلون أن ثمة نقوشاً كانت تزيّن النصب، من جهة الشمال، لكنها اليوم لم تعد موجودة. زالت ربما لأسباب طبيعية، وربما لأسباب أخرى (تخريبية مثلاً). هناك صورة للعمود، بالأبيض والأسود، تعود إلى عشرينيات القرن الماضي. ربما تكون أقدم الصور، وهي اليوم، بنسختها الأصلية، موجودة ضمن ملفات «مكتبة الكونغرس» في الولايات المتحدة الأميركية.

يضيف عبد الساتر رواية أخرى. يُقال إنه في زاوية «إجر الحرف» الواقعة في بلدة نحلة، غربي العمود، كان يوجد صرح اسمه «قصر بلقيس». بلقيس هذه، لسبب غير مفهوم، كانت تحب أن تمشي على الحبال المعلقة في الهواء، من بلدة إلى أخرى، وبالتالي لا بد للحبل أن يرتفع على شيء ما، وهذا الشيء يكون «عمود إيعات» وأمثاله. لكن دائماً لا شيء نهائياً هنا، كلها حكايات أسطورية، لتظل رواية «المنارة» هي الأقرب إلى التصديق.

طول «عمود إيعات» 20 متراً تقريباً، مكوّن من 16 حجراً، أعلاها تأخذ شكل التاج. قاعدته مبنية من نوعية حجارته المنتصبة، على درجات، ويبلغ ارتفاعها وحدها نحو ثلاثة أمتار. رئيس بلدية إيعات يقول إن بلديته أصدرت قراراً بتصنيف الأرض المحيطة بالعمود كمنطقة أثرية. هذا يعني أنه ليس بإمكان أحد تشييد مبان مرتفعة، ولكن، بالمقابل، لا يمكن منع الناس من بناء المنازل العادية هناك، لكون الأرض مملوكة من قبل بعض أبناء البلدة. اللافت أنه رغم الإجماع على أثرية العمود، وهو يكاد يكون مطابقاً في الشكل لأعمدة قلعة بعلبك، فليس هناك أي ناطور يحرسه ولا رجل أمن، لا أحد على الإطلاق. حتى إنه غير مسوّر ولا يحتاج الاقتراب منه وملامسته إلى الدخول عبر بوابة. هذا يعني، ببساطة، وبما أنه في منطقة غير مأهولة، يمكن لمن يشاء أن يعبث به ويخرّبه، وربما يخطط لسرقة حجارته بآلية ما، من دون أن يجد من يسأله ماذا يفعل.