من يتابع التصريحات والمواقف السياسية هذه الأيام في لبنان يجدها كلها منصبّة على موضوعٍ واحد خطف كلّ الأضواء واحتلّ صدارة الاهتمام دون منازع، ألا وهو الحوار "المفترض" بين "تيار المستقبل" و"حزب الله"..

هكذا، نسي اللبنانيون كلّ قضاياهم "العالقة" منذ سنوات وسنوات، من الموازنة "الضائعة" إلى السلسلة "المجمّدة" أو قانون الانتخاب "غير العصري"، مرورًا بالفراغ الرئاسي الذي يتحوّل يومًا بعد آخر إلى "طبيعي"، وصولاً حتى إلى ملفات الأيام القليلة الماضية، سواء لجهة التمديد "القاهر" للمجلس النيابي و"طعن الضرورة" ضدّه، أو لجهة "الحملة" غير المسبوقة ضدّ الفساد الغذائي وما شابه..

كلّ هذه الملفات طُويت وباتت وراء ظهورنا، اللهم إلا إذا كان البعض ينتظر أن يحلّها ويحسمها الحوار المنتظَر والذي لم تحدَّد آليته ولم يوضَع جدول أعماله لغاية اللحظة..

حبر على ورق..

هو ليس الحوار الأول من نوعه، ولن يكون الأخير، إذا ما أراد اللبنانيون أن يكرّسوا ما يُسمّى بـ"الشراكة الوطنية"، ولكنّ الحوار بين "تيار المستقبل" و"حزب الله" يكتسب أهمية استثنائية، ليس فقط بسبب كمّ الملفات الخلافية بين الجانبين والتي وصلت لحدّ اتهام الأول للثاني بالتورط في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وتحميل كلّ منهما للآخر مسؤولية "توريط" لبنان في "المستنقع السوري" بشكلٍ أو بآخر، ولكن أيضًا بالنظر إلى "طبول الفتنة" التي تُقرَع في المنطقة برمّتها، في ما يشبه "جرس الإنذار" الذي قد يقضي على الأخضر واليابس في حال لم يتدارك المعنيّون الأمر سريعًا.

ومع ذلك، فإنّ هذا الحوار لا يزال حتى يومنا هذا "حبرًا على ورق"، رغم أنّ كلاً من الجانبين المعنيين ينسب لنفسه "المبادرة". فإذا كان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله دعا صراحة لهذا الحوار في الخطاب الذي ألقاه في مجمع سيد الشهداء ليلة العاشر من محرّم، فإنّ "تيار المستقبل" يصرّ على أنّ الأصل في الموضوع ليس سوى "المبادرة" التي كان رئيسه ​سعد الحريري​ قد تقدّم بها قبل وقتٍ طويل.

أجواء نارية تمهّد للحوار؟!

يقول البعض إنّ ما يعوّق الانطلاق العملي بالحوار بين التيارين هو عدم نضوج الآلية التي ستُعتمَد فيه أو عدم وضوح "جدول الأعمال" الذي يفترض أن يلتزم به الطرفان. وفي وقتٍ يصرّ "حزب الله" على أنّ معيار النجاح في مثل هذا الحوار هو أن يكون "غير مشروط" بكلّ ما للكلمة من معنى، يتحدّث البعض في قوى الثامن من آذار عن "خطين منفصلين" داخل تيار "المستقبل"، يبدي الأول حماسة للحوار، في حين أنّ الثاني يسعى لوضع "العراقيل" في وجهه، ويشرح هؤلاء وجهة نظرهم بالإشارة إلى محاولة الفريق "الممتعض" الضرب على وتر الموضوع "الرئاسي" والقول أنّ الحزب بإعلانه ترشيح رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون نعى الحوار قبل أن يبدأ، في وقتٍ كان كلام نصرالله مقصودًا باعتبار أنه أراد "طمأنة" المسيحيين بأنّ هذا الحوار ليس المخوّل بإنتاج الرئيس المسيحي.

وفيما يغمز البعض من قناة عددٍ من النواب الذين لم يتوقفوا عن الهجوم على "حزب الله" بما لا يخدم تهيئة الأجواء لمثل هذا الحوار، حيث تمّ رصد تصريح لأحد نواب "المستقبل" في الساعات القليلة الماضية يصف فيه "حزب الله" بـ"المنظمة الإرهابية"، يصرّ "المستقبليون" على رفض هذه الاتهامات، ويعتبرون أنّ الحديث عن "خطين" داخل "التيار" بات "نكتة سخيفة" لكثرة تكرارها، علمًا أنّ رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة أدلى بمواقف واضحة من موضوع الحوار مطلع الأسبوع، وهي مواقف سيستكملها رئيس التيار سعد الحريري في حديثه التلفزيوني المرتقب. ويستغرب "المستقبليون" أيضًا سعي البعض لنقل سياسات "القمع" إلى داخل التيار "الأزرق"، شارحين أنّ الجهوزية للحوار لا تعني انتهاء الخلافات، ولا تعني كمّ الأفواه، لأنها سياسة لم ولن تنسجم مع مبادئ "المستقبل".

ضجّة مفتعلة.. وأكثر!

وبعيدًا عن مواقف الجانبين المعنيّين بالحوار، تستوقف المراقب كمية التصريحات بل الهواجس وعلامات الاستفهام الصادرة عن كتلٍ وشخصياتٍ لا علاقة لها بالمبدأ بمثل هذا الحوار. فهذا متوجّس من أن تأتي نتائج الحوار على حسابه، وذاك يسأل عن جدول الأعمال، وبينهما ثالث يخشى من تكرار "التحالف الرباعي"، ورابع يشكّك بالتوقيت، وخامس يتحدّث عن "نوايا مبطنة".

وتثير هذه المواقف الكثير من الأسئلة لدى المتابع، فلماذا كلّ هذه الضجّة المفتعَلة حول حوارٍ يفترض أن يكون طبيعيًا أكثر من الظواهر الشاذة التي باتت تزخر فيها السياسة اللبنانية؟ كيف يمكن لحوارٍ لم يحصل أن يصبح أكثر أهمية من فراغ رئاسي أكمل شهره الخامس بكلّ ثقة وطمأنينة؟ ولماذا يصرّ البعض على تحميل هذا الحوار أكثر ممّا يمكن أن يحتمل؟

وأبعد من ذلك، منذ متى يصبح حوار ثنائي "الحدث" في لبنان؟ ألم تكن معظم الحوارات المشابهة تأتي فجأة ويتمّ التحضير لها بسرية خوفًا من تشويه "الطبخة"؟ ولماذا غيّر "الطبّاخون" العادة؟ ولماذا لا يكون الحديث المبالَغ فيه في هذا الموضوع مجرّد "تغطية" على الاستحقاقات المؤجّلة، على كثرتها؟

فلتُعمَّم ثقافة الحوار..

في مطلق الأحوال، يبقى ما لا شكّ فيه أنّ مجرد التقاء أيّ فريقين هو أمر إيجابي يجب البناء عليه، خصوصًا إذا ما كانا فريقين "خصمين" يكاد القيّمون عليهما "يفقدون السيطرة" على الجمهور بعد "شحنات التحريض" التي مدّوه بها طيلة سنوات وسنوات.

وبدلاً من رسم علامات الاستفهام والشكوك حول الحوار "المفترض"، قد يكون الأفضل هو تعميم ثقافة "الحوار" بين مختلف الأفرقاء، شرط أن يكون حوارًا منتجًا، بعيدًا عن الحسابات الآنية والضيّقة..