أضفى رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ في حديثه التلفزيونيّ أمس مناخًا حواريًّا واضحًا، اتّجه به نحو كلّ الفرقاء من "حزب الله" إلى رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون حيث قال بأنّ علاقته معه على المستوى الشخصيّ ممتازة وأصرّ على بقائها على تلك الصفة، خدمة للبنان والمجتمع اللبنانيّ. إنّ الوضوح بتلك الإيجابيّة التي يمكن الوقوف أمامها بهدوء وحكمة واتّزان، لا تحجب على الإطلاق عمق الأزمة وعقم الحلول المرتبطة بالصراع في سوريا وحولها وعليها، ودخول "حزب الله" طرفًا في الصراع. فلم يختلف توصيف الحريري عن توصيف الفرقاء السياسيين، ولكن كلّ في قراءته الحروفيّة المطلّة على آفاق الصراع من سوريا إلى المنطقة ككلّ.

إنطلق رئيس الحكومة السابق، في حواره المذكور، من الأزمة في سوريا وانعكاسها على لبنان، بتكرار معارضته دخول "حزب الله" في الحرب السوريّة. هي معارضة إيديولوجيّة كما بدا في الحديث، ومسلّمة لا حياد عنها. غير أنّه ميّز وفصل بين التدخل العسكريّ في سوريا، وبين الاستحقاقات التي يتوجّب على "تيار المستقبل" و"حزب الله" التحاور حولها بانفتاح واضح. "فالحوار ليس بين الحلفاء بل هو بين الأخصام"، وبخاصّة أنّ لبنان لا يزال في قلب الصراع المذهبيّ.

مرجع سياسيّ تابع حوار الحريري تساءل: "هل بدأنا نتجه إلى لبننة الاستحقاق الرئاسيّ انطلاقًا من فصله عن الصراع في الخارج؟ وكيف يمكن الفصل بين الخارج والداخل طالما أن هذا الملفّ بالذات جزء من هذا التماهي بين الداخل والخارج، ومادة مساومة قائمة بين السعوديّة وإيران، وما هو موقف السعوديّة من المناخ الإيجابيّ الذي انتهت إليه المفاوضات الإيرانيّة-الأميركيّة؟ ألم يعن كلام الرئيس الايراني حسن روحاني حول نجاح المفاوضات والتي لم تنته إلى اتفاقات تذكر، أنّ كل العناوين وبالتحديد الاستحقاق الرئاسيّ مرتبطة بهذا المناخ المهيمن بجديّة على المنطقة والضاغط بدوره على موقف المملكة العربيّة السعوديّة؟ أين يكمن الفصل إذًا؟"

انطلق هذا المرجع السياسيّ من التساؤل المقرون بتحليل المواقف ليناقش الحريري، معتبرًا بأنّ الحوار المطلوب اليوم بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، انطلق من مسلّمة أجمع الفريقان عليها، وهي الخطورة التي يمثّلها تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة" على كلّ المستويات. وهو على كل حال خطر وجوديّ. لكنّ الخلاف الكبير بأنّ سعد الحريري حتّى الآن غير مقتنع بأنّ وجود الحزب في سوريا لم يعد ضرورة استراتيجيّة للبنان، ولم يقرأ من خلال علامات الأزمنة السياسيّة المطلّة من التغييرات الجذريّة في الرؤية ما بين الأميركيين والإيرانيين، بأنّه تخطّى المدى اللبنانيّ ليصير ضرورة استراتيجيّة دوليّة. وينطلق هذا المرجع بسؤال وجّهه لرئيس الحكومة السابق، هل قرأ وسمع خطابًا أميركيًّا أو أوروبيًّا تعرّض لـ"حزب الله" خلال الحقبة الزمنيّة القريبة وبخاصّة بعد شعور هذا الغرب بالخطر الذي يحدثه "داعش" على المجتمعات الأوروبيّة والغربيّة؟

ويكمل هذا المرجع تحليله معتبرًا بأنّ إصرار الحريري على مهاجمة "حزب الله" بسبب دخوله الحرب في سوريا، يشبه إلى حدّ كبير موقف وزير الخارجية السعوديّة سعود الفيصل بمطالبته باعتبار "حزب الله" إرهابيًّا يبقى من قبيل رفع السقف فقط، على أمل أن ينظلق الحوار بسقوف عالية ومن ثمّ يتمّ الدخول في ما يجب ترتيبه على المستوى الداخليّ.

غير أنّ ما استوقف المراقبين في هذا الحديث، تشديد الحريري على أنّ رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ هو مرشّحه، مثلما العماد عون هو مرشّح فريق الثامن من آذار، وأنّ الحوار مع "حزب الله"، هو للوصول إلى رئيس توافقيّ، وجعجع أعلن عن استعداده للانسحاب لصالح مرشّح توافقي. ويشير هؤلاء في معرض قراءتهم، بأنّ مسألة الحوار تبقى من قبيل محاولة الالتفاف على مبادرة العماد عون، وفيها قام بإعادة الاعتبار لموقع سمير جعجع، في فريق الرابع عشر من آذار، بوزنه التمثيليّ الواضح، وهذا عينًا أحرج في الأصل الحريري، الذي تمسّك ظاهريًّا بترشيح جعجع، فيما محاولته الفعليّة والجوهريّة الوصول إلى الرئيس التوافقيّ. انطلق هؤلاء من تحليل الحديث إلى تحديد ما يشبه المسلّمات الباطنيّة ليقولوا بأن سمير جعجع على مستوى سعد الحريري وبعض قوى الرابع عشر من آذار ليس مرشحًا جديًّا لا في المطلق ولا في الواقع. فلو كان موقعه جوهريًّا لكان سعد الحريري قد تبنّى بالفعل ترشيح سمير جعجع من خلال تبنيه لمبادرة عون، والتي فيها دعا رؤساء الكتل النيابيّة إلى التزام الترشيحين والتصويت لمرشّح من المرشحين، ومن يفز يحكم لستّ سنوات.

ويتبيّن هنا أنّ الحوار المرتقب بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" ليس استراتيجيًّا بقدر ما هو مسار تكتيكيّ. والدليل على ذلك بأنّ الحريري يعرف كما سواه، بأن موضوع الرئاسة لم يعد خاضعًا للمقاييس الداخليّة. وفي أصله وجوهره لم يكن عنوانًا محليًّا يقوده السياسيون في الداخل، بل هو خاضع للنتائج التي خلصت إليها المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران، أي نجاحها الذي لم يتحوّل إلى اتفاقات، وتأثيرها على واقع المنطقة من العراق إلى اليمن وسوريا ولبنان بتفاصيل الأحداث ومعاييرها ومفرداتها. وتشير أوساط سياسيّة إلى أنّ قوى الرابع عشر من آذار لو كانت جادّة في تبنّيها جعجع لكانت قبلت بمبادرة عون، وانطلقت مع الجميع إلى المجلس النيابيّ بانتخاب ديمقراطيّ راق. حينئذ يتلبنن الاستحقاق.

ما يجب فهمه في هذا السياق بأنّ سعد الحريري في حديثه الأخير أظهر عمق التماهي مع النائب وليد جنبلاط بالتشديد على الرئيس التوافقيّ، حيث النائب هنري حلو بحسب جنبلاط يحوي تلك الصفة التي تؤهله للترشيح، بمعنى أنّه أجهض ترشيح جعجع بعدما جوّفه، ويحاول من خلال تشريع الأبواب مع "حزب الله" إقناع الأخير بالتخلّي عن العماد عون لمصلحة الرئيس التوافقي. وهذا حتمًا ما سيرفضه الحزب بالشكل والمضمون حتّى انقطاع النفس.

وينكشف أكثر خلوّ طرح الحريري من الجديّة برفضه المجيء برئيس يقيم علاقات مع سوريا ورئيسها بشار الأسد. ويسأل هنا مصدر سياسيّ آخر مراقب، كيف يمكن المجيء برئيس معاد لسوريا ولرئيسها في ظلّ مناخ إيجابي ليس بين أميركا وإيران بل بين أميركا وسوريا، ويسأل المصدر الحريري، هل سمع منذ سنة خطابًا أميركيًّا مفرطًا في العدائيّة بوجه سوريّا؟

إنّ ما طرحه الحريري بقي خارج سياق نتائج ما وصلت إليه المفاوضات بين الأميركيين والإيرانيين. إنّ الأوراق الآن لم تعد هي نفسها حينما كانت في يد السعوديين. هناك مرحلة جديدة يجب على الحريري وبحسب أوساط متابعة تلقفها بعمق كبير. وحتى لا يبقى الاستحقاق أسير التسويات في الخارج تبقى مبادرة ميشال عون هي الأقرب والأفضل للتنفيذ.