كل الأضواء وكل الإعلام كانا على ضفاف نهر الدانوب الأزرق لمواكبة المحادثات الإيرانية - الغربية حول الملف النووي الإيراني. ومنذ انتهاء الجولة في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) والتعليقات المتضاربة تنشر حول نتائج المداولات. ولوحظ أن معظم التحليلات ركزت على «فشل المحادثات بين إيران والدول الخمس (زائداً واحداً)»، وأن المفاوضات تأجلت سبعة أشهر. ومع ميل واضح إلى وصف النتائج بالفشل، فالمعلومات تنبئ بغير ذلك كما تؤكد مصادر موثوقه لـ «الحياة».

لقد جرت العادة أن يعلن عن تأجيل فشــل أي اجتماع بين طرفين متخاصمين أو أكثـــر، لكن محادثات فيينا ناقضت الكثير من المعطيات، حيث تم اتفاق بين إيران والدول الغربية، وتفاهم ضمني على تأجيل إعلان التوصل إلى هذا التفاهم. وهناك شواهد محددة على هذا. ولدى التوغل في التفاصيل نعثر على أبرز التفاهمات ومنها:

قبول إيران بالتفتيش النووي على منشآتها من وكالة الطاقة الذرية، وهذا ما كانت تعارضه إيران سابقاً. كذلك وافقت إيران على الاستمرار في تخصيب اليورانيوم بنسبة خمسة في المئة، وليس 20 كما كانت تصر. ومقابل ذلك، قطفت ثمار مفاوضاتها الماراثونية، ومن ذلك الاسترداد التدريجي للأموال المحتجزة في المصارف الأميركية وعلى أقساط. وهذا ما يقدم جرعة مهمة للوضع الاقتصادي العام في إيران الذي يعاني الكثير من الأزمات.

والجانب المهم في الاجتماعات هو توصل الفرقاء إلى تفاهمات عدم الإعلان الصريح عما انتهت إليه الاجتماعات «لأسباب تكتيكية».

إذاً، لعلها المرة الأولى في المسار التفاوضي الإيراني - الأميركي - الغربي التي يتفق فيها على عدم إعلان النجاحات حرصاً على نتائج أكبر وأفضل خلال فترة زمنية تمتد سبعة شهور، ويستمر فيها التفاوض ولو بأشكال مختلفة، توصلاً إلى جلاء بعض النقاط الغامضة.

على أن النقطة الأهم تتمثل في انتزاع إيران الاعتراف الواضح من الغرب والشرق بأنها دولة نووية بقطع النظر عن شروط التخصيب ونسبته، وهذا ما ساهم في التخفيف من حدة أزمة الثقة بين إيران وسائر الدول الغربية. هكذا، لم يعد «التمديد» عادة لبنانية فحسب، إذ إن المفاوضات حُددت بمهلة زمنية للعودة إلى المحادثات والتركيز على النقاط الخلافية الأخرى وهي ليست بقليلة.

ويمكن القول بأمانة صحافية إن اجتماعات فيينا انتهت إلى نصف نجاح، ونصف فشل. وكان واضحاً اختباء كل فريق مفاوض خلف تعابير وكلمات غامضة بما يشبه «الغموض البناء»، مع استمرار عملية عض الأصابع. على أن إيران أظهرت أنها صاحبة نفس طويل في التأقلم مع العقوبات المفروضة عليها، وما نعلمه أن التفاهم الضمني تضمن وعداً قاطعاً برفع العقوبات تدريجاً، والاتفاق على استعادة 700 مليون دولار كدفعة أولى مما هو مجمد في المصارف الأميركية. ولكن، إذا فكرنا ملياً في الأمر فإن الولايات المتحدة ستكون في طليعة الدول التي ستجني أرباحاً من استئناف إيران التعامل التجاري والاقتصادي معها بعد رفع العقوبات.

هكذا، لا الإيرانيون هزموا ولا الغربيون انتصروا. وما أعلن هو نوع من «الغموض الخلاق» الذي سيحكم علاقات المرحلة المقبلة بين الدول التي باعدت بينها السياسات منذ نشوب الثورة الإسلامية عام 1979. لكن هذا الوضع بات مرشحاً لبعض التغييرات الجذرية لما فيه فائدة للأطراف المعنية كافة. ولأن ما عرف إعلامياً على الأقل بأزمة «الملف النووي الإيراني» له الكثير من الامتدادات، وفي ضوء ما جرى، يتوقع حدوث متغيرات ولو في شكل محدود في المراحل الأولى. ولعل «الحرب السورية» تأتي في طليعة هذه القضايا الشديدة التأزم.

والجديد هنا زيارة وزير الخارجية السوري وليـد المعلم ووفــــد يضم نائب الـوزير فيصل المقداد، والمسؤولة السيــاسية والإعلامية للــرئيــس بشار الأسد بثينـــــة شعبان، إلـــى موسكو. وكان توقيت الـزيــارة مـؤشراً للكثير من المتغيرات.

فقـــبل وصول المعلم كانت موسكو تقول إن العـــودة إلى مقررات «جنيف - 1» تصـــلح كأساس لحل الأزمة، لكن الاقتراح السوري آثر اعــتماد «الخطة الروسية» لحل النــــزاع وهي خطة تقضي بتنظيم اجتماعات بين فصائل سورية مختلفة تلتقي في موسكو وتبحث في الحل الممكن وعلى مراحـــل. وسبق للعراب سيرغي لافروف أن الـــتقى عدداً من المعارضين الذين يمثلون «ثقــلاً معيناً» في الداخل السوري. وكانت المفـــاجأة بعد استقبال الرئيس الروسي فلاديميـــر بوتيــن للمعلم، أن صدر عن موسكو ما يأتي: لا جنيف جديد، ودعم «خطة حلب» التي تحمل في هذه المرحلة اهتماماً خاصاً نظراً إلى أهمية المدينة الثانية في سورية ولحراجة الوضع العسكري فيها بين جيش النظام ومقاتلي «الجيش السوري الحر»، إضافة إلى قوات «داعش» و «الإخوان».

وكما صدرت المفاجأة من موسكو، كانت واشنطن مسرحاً لمفاجأة من نوع آخر تمثلت بإعلان الرئيس باراك أوباما قبوله «استقالة» وزير الدفاع شاك هايل بصورة مفاجئة. والحقيقة يعكسها التساؤل الآتي: هل استقال وزير الدفاع الأميركي، أم إنه «استُقيل»؟

فما جرى أقرب إلى الإقالة، ويعود القسم الكبير منها إلى الاختلاف في الرؤى بين أوباما ووزير الدفاع حول أزمة سورية والتناقض الواضح في مواقف الإدارة من حيث الإعلان أن الأولوية لمكافحة الإرهاب المتمثل بـ «داعش»، وأن «إزاحة بشار الأسد لم تعد الأولوية».

وفي سياق متصل تتحدث وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون في مذكراتها عن الكثير من نقاط الخلاف بينها وبين أوباما حول عدد من الشؤون الدولية، وفي طليعتها الأزمة السورية ووضع الشرق الأوسط.

وتأتي «إقالة» وزير الدفاع، وهو الجمهوري الوحيد في الإدارة الحالية، ليعمق أزمة الإرباك التي يعانيها أوباما، بخاصة التخبط بالنسبة إلى تطورات الأزمة السورية. وتفيد معلومات بأن مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي سوزان رايس، هي صاحبة الكلمة المسموعة لدى أوباما، وهذا ما أدرك الوزير هاغل. وما يعزز فكرة الإقالة نصيحة أحد مستشاري أوباما للوزير بتقديم استقالته بحيث فهم هاغل الرسالة مع حرص الرئيس على المغالاة في الإشادة به وبالإنجازات التي حققها لـ «خدمة بلاده أميركا»، وهذا تقليد أميركي يجمع بين الإشادة بمواهب المستقيل والتأكد من رحيله عن المنصب!

لكن أوباما سيجد في ما تبقى من ولايته الثانية (سنتان) صعوبات كثيرة في ضوء النجاح الكاسح الذي حققة الجمهوريون في الانتخابات الأخيرة، حيث حافظوا على الغالبية الكبيرة في مجلس النواب، كما انتزعوا السيطرة على أكثرية مجلس الشيوخ، وهذا الأمر لم يحدث منذ سنوات عدة. لذلك سيجد أوباما صعوبات كبيرة في تمرير التشريعات التي يراها ضرورية نظراً إلى اختلاف الرؤى بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي.

وبعد...

أولاً: إن النزاعات والقضايا الخلافية ذات الارتبـــاط الوثيق بتداعيات «الملف الإيراني» ستـــشهد هدنة بفعل التمديد الذي توصلت إليـــه اجتماعات فيينا، ومنها ملف الأزمة اللبنانية وأزمة الفراغ في انتخابات رئاسة الجمهورية، إلا إذا ألهم الرحمن الأطراف اللبنانيين على اختلافهم «موهبة» تخطي خلافاتهم الكبيرة منها وحتى الصغيرة، وإلا ستبقى أزمة الشغور الرئاسي عقبة كأداء في وجه توحد اللبنانيين حول قضايا أساسية منها رئاسة الجمهورية. لكن المأساة هذه المرة تتمثل في انقلاب المواقف: فبعدما كان كثرٌ من الأطراف الإقليميين والدوليين يتهافتون على خطب ود لبنان، ها هو لبنان كالبضاعة الكاسدة لا تجد من يريدها. فهل يتعظ اللبنانيون ولو لمرة واحدة؟

ثانياً: من أهم إنجازات لقاءات فيينا وما سبقها وما سيعقبها بداية ذوبان جبال الجليد من عدم الثقة المتراكمة منذ عقود بين إيران ودول الغرب الأميركي منه والأوروبي. وما يؤمل انعكاس أي تقارب بين التيارين المتناقضين، بحيث تصبح إيران وما ومن يدور في فلكها جزءاً من الحلول للمشاكل القائمة إقليمياً ودولياً، وليس فقط جزءاً من المشكلة.

ثالثاً: إن ما انتهت إليه اجتماعات فيينا في شكل واضح هو تأجيل إعلان الاتفاق النهائي إلى ما بعد سبعة أشهر أي في حدود تموز (يوليو) 2015.

وفي هذا السياق هناك ملاحظة يجب التنبه إليها وتتعلق ببعض الأوضاع في المنطقة، وهي أن على أطراف أزمة «النووي الإيراني» أن يدركوا دقة الأشهر الآتية وحراجتها لظهور بوادر انفراج فعلي إقليمياً ودولياً. وفي طليعة هذه الدول لبنان المرتبط تلقائياً بأحداث المنطقة سلماً أو حرباً، وعلى أهل الحل والربط في لبنان إيجاد «مخارج خلاقة» للتخلص من دوامة الصراعات والأخطار الداهمة في عقر الدار اللبناني، وأهمها وأخطرها الإرهاب. والفرصة قد تكون سانحة لوقف عذابات الوطن الصغير الباحث عن رأس للوطن، إذ لا يعقل أن يطلب من أطراف إقليميين ودوليين أن يكونوا حريصين على مصلحة لبنان أكثر من اللبنانيين أنفسهم أو بعضهم على الأقل. وللعلم، فلبنان هو في اليوم التاسع والثمانين بعد المئة بلا رئيس للجمهورية.

فهل الكلام عن قرب احتمال انعقاد الحوار بين المتناقضات اللبنانية صحيح هذه المرة؟ أم سنبقى ندور في دوامة الكيديات السياسية والأحقاد المعتقة التي أنهكت البلاد والعباد؟