تجهد البطريركة المارونيّة عبر مجموعة من المُوفدين والشخصيات، وفي طليعتهم الوزير السابق وديع الخازن، لتنظيم لقاء بين رئيس "كتلة التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، ورئيس حزب "القوات اللبنانيّة" ​سمير جعجع​، ظنّاً منها أنّ هذا الحوار المباشر لا بُدّ وأن يفضي إلى حلحلة على مستوى ملف الإنتخابات الرئاسية في لبنان. لكن هذا الأمر ليس صحيحاً، وهذه هي الأسباب:

أوّلاً: أيّ لقاء مُحتمل بين "الجنرال" و"الحكيم" من دون تحضيرات مُسبقة، ومن دون "خريطة طريق" واضحة ومُفصّلة لتذليل العقبات أمام جلسة الرئاسة، يَعني حُكماً فشل اللقاء سلفاً، لأنّ المسألة ليست عبارة عن مُجرّد خلاف شخصي بين عون وجعجع يُمكن حلّه بلقاء يتيم أو بمصارحة مباشرة، بل هي عبارة عن مجموعة من العُقد المحليّة والإقليمية المتداخلة والمترابطة، تبدأ بالنفوذ الداخلي والصراع على السلطة، وتمرّ بسياسة لبنان العامة وتموضعه في صراعات المنطقة، وتصل إلى مسألة النفوذ الإقليمي والدولي فيه. ولا إشارات على أنّ عون أو جعجع، ومن يقف وراء كل منهما، مُستعدّ للتنازل عمّا يعتبره الخيار السياسي الصحيح والأفضل إزاء هذه العُقد.

ثانياً: إذا سلّمنا جدلاً، أنّ اللقاء لن يتطرّق إلى مسألة الأسماء، وسيتناول مواصفات الرئيس المقبل، فإنّ الأمور ستعود إلى المربّع الأوّل، لأنّ الخلاف كبير بين الطرفين على تفسير عبارة "الرئيس القوي". فالتفسير "العوني" يَعني رئيساً يتمتّع بكتلة نيابيّة كبيرة، ومدعوماً بقاعدة شعبيّة واسعة، وهو مقبول من شرائح واسعة من اللبنانيّين. وينطلق "العونيّون" من تفسيرهم هذا، ليحصروا لائحة المُرشّحين بالعماد عون، لأنّ كل لوائح المرشّحين تضمّ أسماء تفتقر إلى كتلة نيابيّة وازنة، وقاعدتها الشعبيّة محدودة أو مُستترة. وهم يسلّطون الضوء على مواقف حلفائهم في قوى "8 آذار"، ويؤازرونهم في بعض الأحيان، للترويج لمقولة رفض شرائح واسعة من اللبنانيّين لجعجع، نتيجة الدور الكبير الذي لعبه خلال الحرب اللبنانية، في محاولة إقصاء لأيّ منافسة جِدّية محتملة لعون. في المقابل، إنّ التفسير "القوّاتي" للرئيس القوي يَعني رئيساً يتمّ التوافق عليه في "البيت المسيحي" أوّلاً، قبل تسويقه في "البيت اللبناني" الواسع، وتوفير الغطاء الإقليمي والدولي له. و"قوّة" هذا الرئيس-بحسب التفسير "القوّاتي" لا تأتي من كتلته النيابيّة، بل من حجم الدعم السياسي الذي يلقاه، بدءاً بالقوى المسيحيّة الأساسيّة، وصولاً إلى الغطاء الإقليمي والدولي المتوفّر له، إضافة إلى التوافق المُسبق على الخطوط العريضة لسياسته وبرنامج عمله.

ثالثاً: إنّ النظرة المُتضَاربة إلى المِلفّات السياسيّة، بين كل من رئيس "التيار الوطني الحرّ" ورئيس "القوات اللبنانيّة"، وما يُمثّلانه على صعيدي التحالفات الداخليّة والإمتدادات الإقليميّة، لا تزال تراوح مكانها، لا بل أنّها تزداد سوءاً. والملفّات المطروحة لا تنحصر بملف أو إثنين، بل تشمل عشرات المسائل العالقة، على غرار "سلاح حزب الله" وتدخّله العسكري في سوريا، وموقف لبنان من النظام السوري، وتموضع السلطة السياسيّة اللبنانيّة إزاء مشاكل الشرق الأوسط عموماً، وقانون الإنتخابات النيابيّة، وغيرها الكثير. ويكفي التذكير بتشديد كبار مسؤولي "التيّار" أخيراً بمدى متانة التحالف مع "حزب الله"، في الوقت الذي رفضت "القوات" بالأمس القريب المشاركة في حكومة تضمّه، للدلالة على عمق الخلاف بين الطرفين.

رابعاً: إنّ الحركة البطيئة التي تطبع الملفّات الإقليمية والدَولية، من الملفّ النووي الإيراني، مروراً بالمواجهة الدَوليّة ضد تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا والعراق وكذلك بالوضع الميداني في ساحات القتال في سوريا، وصولاً إلى الأزمة في أوكرانيا والضغوط الإقتصادية الأميركية - الأوروبيّة الممارسة على روسيا مع توظيف خليجي لسلاح سعر النفط، لا تدفع أيّ من الأطراف الإقليمية والدَوليّة إلى الإستعجال في حلّ ملفّ الإنتخابات الرئاسية اللبنانيّة. وهذه الأطراف لن تسير طبعاً بأيّ إتفاق لا يكفل مصالحها، أو يؤمّن التوازن في ما بين المصالح المتضاربة للأطراف المتنازعة، حيث أنّ منصب الرئاسة في لبنان يتجاوز في دوره وأهمّيته مسألة توافق كل من عون وجعجع. وبعض المحاولات الغربيّة الناشطة في هذا السياق، لا تتعدّى العُموميّات دون البحث في التفاصيل المُعرقلة، أو أنّها في أفضل الأحوال تصبّ في صالح فريق سياسي ضدّ منافسيه، ما يجعلها ساقطة سلفاً.

في الختام، وبعكس ما يُروّج من قبل بعض وسائل الإعلام، إنّ اللقاء بين "الجنرال" و"الحكيم" ليس على باب قوسين من الإنعقاد. وفي أفضل الأحوال، وفي حال نجح سُعاة الخير في تنظيمه قريباً تحت عباءة بكركي وكثمرة لضغوطها، فإنّه لن يكون أكثر من محاولة متبادلة بين القياديِّيَن المسيحيِّيَن الرئيسَين لعدم الظهور بمظهر المُعرقل للحلول، من دون أيّ نتائج ميدانيّة تُذكر، حيث أنّ المعطيات الحالية تؤكّد أنّ لا بصيص نور في نهاية نفق الإنتخابات الرئاسيّة، حتى إشعار آخر.