تجتاح المسيحيين مجموعة هواجس، تتخطّى بجوهرها وتعابيرها ورؤاها الحدود السياسيّة الروتينيّة المنظورة في السياق العام اللبنانيّ. فهي هواجس وجوديّة منها ما اتصل بالأحداث الأخيرة بين العراق وسوريا ومصر، ومنها ما انطلق من التمزّق البنيويّ المهيمن عليهم في لبنان.

لكنّ السؤال الخطير الذي يجول في بال كثيرين، ونحن على مقربة من عيد ميلاد المسيح، ما هي علاقة المسيحيين بالمسيح في ظلّ ما يعيشونه من أزمات تهددهم في موجوديتهم الأصيلة، وتقضّ مضاجعهم ليلاً ونهارًا؟ والسؤال الأخطر الذي يجب أن يطرح في مسرى الأحداث الدائرة، هل تعي الكنائس المسيحيّة خطورة الأوضاع ودقّتها على كلّ الأصعدة السياسيّة والاجتماعيّة والإقليميّة وما هي مشاريعها للمواجهة الكبرى حتّى لا يصير المسيحيون في هذا المدى نسيًا منسيًّا، مهاجرين باحثين عن الأمن والأمان والسلام والحياة الكريمة بكلّ تجلياتها؟

في الكتاب العزيز، يضيء متى الإنجيليّ على نسبة المسيح الناسوتيّة لتأكيد ولادته من هذا السبط وتوضيح جذوريّته، وبعد ولادته هرّباه والداه إلى الناصرة خوفًا من اضطهاد هيرودس فسمّي ناصريًّا. ثمّة علاقة واضحة لا يمكن فصلها وبترها على الإطلاق بين المسيحيّة كحالة مولودة من الأزل والهوّية غدت هي الجسد، أي الكيان المزروع في الأرض. ويوحنّا الإنجيليّ أكّد على ذلك بلا تورية حين قال "والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًّا"، ويثبّت بولس الرسول في رسالته لأهل غلاطية تلك الناسوتيّة التي الهويّة مرادفتها، بقوله: "ولمّا حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة تحت الناموس". بهذا المعنى لا نقاش في ألوهيّة الابن، فهو قول عقائديّ ثابت لا حياد عنه عند المؤمنين به، ولكنّ الخطاب الذي يضاهي مبدأ الألوهيّة ويوازيه بدقّة كاملة، أنّ ناسوت المسيح هو المشرق كلّه، من مشرق المشارق ولد، فغدا هو "مشرق المشارق" كما تقول الطقوس الأرثوذكسيّة. المشرق هو جسده الكامل الذي غدا كونيًّا فيما بعد، لمّا أنجَلَ بولس وبطرس العالم كلّه، والإنجيل بلا انغلاق حروفيّ هو إنجيل المشرق.

لا يساق هذا الكلام جزافًا، بل في عمقه الكبير. ذلك أنّ المسيحيين ببعض قياداتهم السياسيّة والروحيّة وبعض المفكرين عندهم، أبعدوا أنفسهم عن هذا السياق الجوهريّ عمدًا أو تجاهلاً أو جهلاً... والحرب التي تشنّ عليهم في الأقطار العربيّة والمشرقيّة من القوى التكفيريّة، واغتيال العديد من قادتهم الذين امتازوا بنضالهم العروبيّ وانسكبوا في القضيّة الفلسطينيّة، أو أسّسوا لتواصل استراتيجيّ في الأزمة السوريّة الأخيرة مع روسيا وسواها، أو في لبنان، هي استمداد حقيقيّ لمحاولة القضاء اليهوديّ على هويّة يسوع المسيح بقتل المسيحيين العرب والمشارقة أو تهجيرهم نحو الغرب. الصراع الدائر والعاصف في بنية المشرق دينيّ بامتياز، وهو ما استشرفه صموييل مانتنغتون في كتابه الشهير "صدام الحضارات وظهور العالم الجديد" "”The clash of civilizations and remaking of a new order. الاستشراف بحدّ ذاته ما كان نظريًّا على الإطلاق بقدر ما كان حراكًا تخطيطيًّا وتجسيديًّا فيما بعد بدأ من أوروبا الشرقيّة من البوسنة والهرسك وصربيا وكرواتيا وكوسوفو في الحقبة الممتدة من سنة 1996 حتى العام 2000، وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 انتقل الصراع إلى دائرة الشرق الأوسط من البوابة العراقيّة على وجه التحديد، من دون أن ننسى أنّ كاتب مقدّمة هذا الكتاب هنري كسينجر، كانت له اليد الطولى في إعداد مخطّط تهجير المسيحيين من لبنان، وتجسّد ذلك في بدء الحرب اللبنانية سنة 1975.

الصراع الدينيّ المشار إليه لم ينفجر بالكليّة وبهذه الوحشية، لو لم يكن اليهود خلفه، وإسرائيل محركتّه. مشكلة إسرائيل بالعمق اللاهوتيّ الكبير هي مع الإسلام القرآنيّ القائل: قال تعالى: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" (سورة المائدة 82)، أي هي مع الإسلام المتماهي بصورة حركيّة مع المسيحيين، الذين يندرجون في تلك الهويّة التي مثلتها القضية اللبنانيّة ولا تزال، وتمثلها قضايا العراق وسوريا وفلسطين. لذلك استحدثت إسرائيل تلك القوى التكفيريّة في إطار تخطيطيّ-استراتيجيّ، وزرعتها في عمق الصراع للقضاء على المسيحيّة المشرقيّة المنتسبة بجوهرها إلى يسوع المسيح الناصريّ، وهم من قتلوه بعد أن علّقوه على الخشبة، فانتصر عليهم بالقيامة، وتاليًا، لمحاولة استبدال الإسلام القرآنيّ الذي يمثّله المسلمون المنتسبون إلى التراث الكليّ كما كتب محمّد أركون، والمنطلقون من المعنى الشامل للإسلام بإسلام أسود يحقّق ثقافة الإسلاموفوبيا. ليبدو الإسلام مترجّحًا بين حقيقته القرآنيّة المنبثّة في هذا المشرق بالتلاقي مع المسيحيّة في هويّتها وجذوريتها، وبين ثقافة الحروف المغلقة التي سلبته من هذا المعنى والتراث، وجعلته أسير الحروف السوداء حتّى الاختناق.

بهذا المعنى، إنّ المسيحيّة المشرقيّة، ليست مستهدفة في المطلق من المسلمين، الذين ناضلوا إلى جانبهم ضدّ الاستعمار العثمانيّ، ومن ثمّ ضدّ الانتداب الفرنسيّ، وبذلوا الشهداء واختلطت الدماء لتولد من رحمها عروبة صافية بيضاء، ومشرقية تعبّر عن ذاتها بهذا الامتداد الجغرافيّ الطبيعيّ الممدود من فلسطين إلى العراق مرورًا بلبنان وسوريا. هي مستهدفة بالدرجة الأولى من إسرائيل، لأنّ دماء المسيح لا تزال تسري في عروق معظم من يؤمنون به إلهًا تامًّا وإنسانًا تامًا، وذاقوا بهاءه ساطعًا من دماء كلّ من ذبحتهم إسرائيل جورًا، فاستكملت مذبوحية المسيح بمذبوحيتهم. ولأنّ اليهود غير مؤمنين بالقيامة فقد رفضوا أن يروا المسيح قائمًا من بين الأموات، فاعتبروه ميتًا جثّة مسروقة من تلاميذه. واستمدادًا لذلك، فإنّ المسيحية المشرقيّة بدورها مستهدفة من تلك القوى التي زرعتها إسرائيل عنوة عن الإسلام القرآنيّ بصفائه لتفرّغه وتجوّفه من فحواه ومضمونه الراقي، وتفجّر الأحقاد العمياء باستيلاد تعابير وصفات وأفعال ظهرت في العراق بعملية التهجير التي مارسها تنظيم داعش بحق المسيحيين. وحاول أن يمارسها بسوريا.

ليس المبتغى في تلك القراءة أن نظهر تحليلاً تاريخيًّا لواقع جماعة أصيلة وجدت قبل الإسلام وهي مستمرة في الشهادة للمسيح بعده، وتعرضت لاضطهادات عديدة وانتصرت، فيما نستعدّ للاحتفال بالميلاد بالشكل متناسين جوهر وجودنا اللصيق بهدف التجسّد. بل المبتغى أن يقرأ المسيحيون بدءًا بقياداتهم الروحية والسياسيّة في لبنان، أن الاستهداف للمسيحيّة المشرقيّة، هو استهداف يهوديّ إسرائيليّ صهيونيّ بحت للهويّة المشرقيّة المطلّة من فلسطين إلى العراق. والهويّة هذه هي جسد المسيح النورانيّ الممدود من جيل إلى جيل. ميلاد المسيح المرتقب محطة للتأمّل بهذه الحقيقة الوجوديّة المحفّزة للاتفاق على خصوصيّة البقاء وفرادته ومعناه بترسيخ تلك الهويّة محطّة حضور وسطوع في مواجهة العبثية الإسرائيليّة-التكفيريّة، ونحن مدركون أنّ المقاومة ليس بالمعنى السياسيّ البحت بل اللاهوتيّ الصرف، جاءت من صليب المسيح شكًّا لليهود وجهالة للقوى الظلامية القاتلة.