لو قُدِّر للغة العربية أن تكون هي رئيسة الجمهورية المُتنازع عليها اليوم لعاش لبنان “شغوراً” أبديًا ولطار “نصاب” الحروف في كلّ الجلسات ولكان “تمديد” الجرائم اللغوية هو بطل الساحة الذي تعجز عن إصابته “طماطم” المجتمع المدني والذي بسببه ينحلّ المجلس الدستوري لارتكابه جريمة غضّ الطرف عن “الطعن” المتكرّر بلغة الضادّ. ولو قُدِّر للغة العربية أن تكون بطلة جلسة واحدة من جلسات “المسخرة” الرئاسيّة لتحوّلت الى صفٍّ ابتدائي يُستبدَل فيه نبيه برّي بـ“أستاذٍ” له ضلوعٌ في لغته الأمّ وقواعدها لا في التمديد ومسوّغاته.

ليس طارئًا على لغة الضاد في يومها العالمي أن تكون من ساسةِ لبنان براء وبراء. لكلٍّ من هؤلاء “فُصحاه” التي منها ينهل “فصاحته” السياسيّة. والتنويه المُقتضى يفرض التمييز بين الفصاحة في حالاتها الطبيعية والتي تعني البيان أي سلامة الألفاظ، والفصاحة في المفهوم اللبناني التي تعني “الفزلكة بوجاهة”. لكلٍّ من هؤلاء “فُصحاه” التي سرعان ما غدا مفهوم “تعميم الفائدة” ينطبق عليها وهو ما حوّلها من كلماتٍ نائمةٍ في القواميس الى عباراتٍ متراصفةٍ لها استخداماتُها تدين بإيقاظها لبعض “وجهاء” السياسة المحلية.

كم من مرّة...

البحث في دفاتر ساسة لبنان (في معظمهم تلافيًا للسقوط في فخّ التعميم) عن تعريفٍ للغة العربية يفضي الى نتيجة لا يحتاج استخلاصُها الى استصراحهم لأن المكتوب اللغوي يُقرأ من عنوانِه. فكم من مرّة خُدِشَت آذان عارفي الحدّ الأدني من اللغة وفقهائها، وكم من مرّة فُطِرت قلوب محترمي اللغة والخائفين على مصيرها، وكم من مرّة ارتكب ساسةُ لبنان جرائم في حقّ لغتهم التي تمنحهم فرصة التحريك والتفصيل وهي جرائم أعظم من حروبهم القذرة. وكم من مرّة عجّت خطاباتُهم بعظائم الأمور والأنكى من ذلك عندما يأتي الويل والثبور ممن يشغل كرسيًا يفرض عليه أن يكون مرآةً لتلك اللغة لا صورةً مشوّهة عنها. لا حاجة الى الدخول في لعبة الأسماء على غرار ما هو رائجٌ اليوم في الاستحقاق الرئاسي لأن المرشّحين كثر وتكاد المساحات الورقية والزمنية لا تتسع لذكر أسمائهم وأسماء مستشاريهم الأفذاذ. هنا لا حلّ سوى بالقفز فوق الأخطاء اللغوية التي باتت تلوّث آذان اللبنانيين أكثر مما تلوّث المأكولات الفاسدة معداتهم، وعدم المطالبة بأمنٍ لغويٍّ أو بخليّة أزمة قد تهرَم قبل أن يجيد معظم ساسة لبنان قراءة بيانٍ حكوميٍّ أو خطابٍ نيابي في مناسبةٍ بلا خطأ يُذكر.

بيت القصيد

ليس هنا بيت القصيد مع التسليم بصعوبة العلاج لهذا المرض اللغوي، بل في القواميس السياسيّة النابتة والتي باتت صعوبة إحصائها أشبه بصعوبة إحصاء عدد النازحين السوريين الحقيقي في لبنان. ما هي اللغة العربية في مفهوم وزرائنا ونوابنا وقادتنا؟ هي ببساطة كلماتٌ ممجوجة على شاكلة “كليشيهات” أجاد هؤلاء طوال السنوات السابقة وخصوصًا بعد العام 2005 ترويجها حتى غدت قاموسًا في ذاته يسوّق له جمهورهم في شعاراته والصحافيون في كتاباتهم. قد يسأل سائلٌ: من أين أتوا بها؟ هي حتمًا كلماتٌ موجودة في معاجم اللغة العربية على فرديّتها ولكن مع بعض “التوابل” السياسيّة التي تفرضها الظروف. كلماتٌ غدت جملاً قد تبدو مفيدة. أسلسُ ما في هذه الكلمات-العبارات أن استخدامها قد لا يليق إلا بالحالة اللبنانية الشاذّة في كلّ شيءٍ حتى في حقولها اللغوية. ولو قُدِّر لـ24 وزيرًا و127 نائبًا (مع توابعهم طبعًا) أن يحاضروا بها لاحتاجوا أسابيع وسنوات.

من قواميسهم...

جولةٌ سريعة على تلك الكلمات غير الطارئة على اللغة العربية في معظمها تكشف حقيقة استيلاد السياسيين كلماتهم من الحالات الآنية. فغدًا قد لا يعود “التمديد” على كلّ لسان وشفة، وبعده قد تُطرَد كلمة “الشغور” من القواميس لكثرة ما ضجرت منها اللغة نفسها بعدما غدت مترافقة مع كلّ “عطسة”. “العيش المشترك” قد يهشل لكثرة ما يحاضر فيه أهل العفّة كذبًا، و”النصاب” يحلّق والخشية ألا يعود بعدما طار 16 مرّة من المكان نفسه ولم يغطّ مع حمام ساحة النجمة. “العدالة الدولية” لو كانت في محاكم اللغة لكشفت حقيقة واحدة: جريمتهم لا تُغتفر، و”شرعية التمثيل” لو طُبِّقت بحذافيرها وماهياتها لفرزت أكثريّة نيابية تصلح لبرلماناتٍ أجنبية لا عربية. أما “شهود الزور” فما أكثرهم في ساحة إعدام اللغة. وبالحديث عن “الميثاقيّة” اللغوية أين موقعها في مجلس بالكاد يجيدها؟ وعندما يأتي الدور على “الديمقراطية التوافقية” التي هي ليست سوى مصطلح يضمّ المُتناقضيْن في صيغةٍ لبنانيّة لا يفهمها إلا جهابذتُها يتّضح أنها مجرّد توافقٍ على “الطعن” بظهر لغة الضاد و”تمديد” الطعن في ظهرها الى أجل غير مسمّى والتلذّذ بذلك تحت “مظلةٍ دوليّة” تنتشي بانتشار لغاتها في وطن البريستيج الذي لا يستعير من لغته إلا مصطلحاتٍ معلّبة.

حينها فقط تفهم القلّة...

طويلة “جولة الأفق” في الزواريب حيث رُمِيت اللغة الأمّ، والمعرّجون عليها في غير مناسبةٍ من مجيديها تحت القبّة البرلمانية أو في السراي وما أندرهم لا يقصدونها إلا في “زيارة استطلاع” لـ “جسّ نبضها” خوفاً من وفاتها بأزمة أخطاء شائعة. حينها فقط تفهم هذه القلّة أن الاستحقاق اللغوي أهم من “الاستحقاق الرئاسي” وأن كرسيّ الياء أهمّ من “كرسي بعبدا” وأن اللغة هي من (عاقل) يحتاج الى “استراتيجية دفاعية” قبل سلاح حزب الله، وهي من ينتظر إعلاناً صريحًا من بعبدا لا يُرمى بحجارة كسرت زجاج “إعلان بعبدا”. حينها فقط تفهم تلك القلة أن “هيبة الدولة” من هيبة لغتها، وأن الخروق التي تتعرّض لها من أهل الدار أكثر خطورةً من “خروق العدوّ” على الحدود، وأن أيّ حديثٍ عن “مؤتمر تأسيسي” إنما يجب أن يُخصّص من أجل النهضة باللغة وفاءً لأرباب النهضة، وأن “الفراغ” اللغوي أشنع من الفراغ الرئاسي. حينها فقط تُدرِك تلك القلّة أن “عباءة بكركي” التي يختبئ في ظلها الكثيرون هي نفسها تلك العباءة التي حاكت حروفاً وكلماتٍ فغدت لغة، وأن “المناصفة” مشتقة من الإنصاف البعيد كلّ البعد عن لغةٍ تخسر المزيد مع مرور السنوات بدل الاحتفال بيوبيلٍ ما. حينها فقط تفهم تلك القلة أن “المثالثة” التي تؤيدها ضمناً أو تخشاها علنًا إنما هي في طينتها مثلثٌ أمويٌّ أدبيٌّ شهير (الفرزدق- جرير – الاخطل).

ليتهم يجيدون...

هذه ليست محاضرة لغوية قد يجدها بعضهم محاولة سخيفة في زمنٍ لبنانيٍّ يحتفظ بأولويّاته. هذه مجرّد محاولة “تنفيس” كتلك التي يعمل عليها ساسةُ لبنان كلّما حزّت الحزّة ولا يجدون لأنفسهم عملاً سواها أو أبعد منها “درء الفتنة” الذي ليته ينسحب من طرابلس والمخيمات والحدود الى حقول اللغة علّها تتقي شرّ بلاياهم وتكسر “الستاتيكو” الذي بات يرافقها كما يرافق الحالة العامة من ألفها الى يائها وتسمح لمحترميها والمرتقين بها بـ “الضرب بيدٍ من حديد” كتلك الصلاحية الوهمية التي غالباً ما تُعطى للجيش مع “المظلّة السياسية” المثقوبة. حينها فقط قد يقتنع هؤلاء القاموسيون أن للغة العربية “صيغة وميثاقًا” وُضِعا قبل العام 1943 أيضًا تمامًا كما للحالة اللبنانية “صيغة وميثاق”، وأن أي “تسويةٍ” يجب أن تلحظ أوضاع اللغة النازحة من ميادين التجريح، وأن “الكيان” لا يستوي متى كانت الهوية، التي هي أولاً لغة، مفقودة لا بل مكتومة القيد في جُعَب المنادين بـ”الخصوصيّة” أو قلْ هي أقرب الى “الشهيد الحيّ”. وما أشبه مصطلحات السياسيين الممجوجة اليوم بـ “اللويغة داخل اللغة” وهم أنفسهم المعترضون على “الدويَلة داخل الدولة”، وما أشبه تلك المصطلحات “بالكلام غير الشرعي” حتى على ألسنة المتمسّكين بـ”السلاح غير الشرعي” والمطالبين بنزعه. وليتهم يجيدون كما افتعال إشكالية ثلاثية: جيش-شعب-مقاومة التي أخّرت ولادة البيان الحكومي وقتذاك، افتعال الإشكالات اللغوية على خطاباتهم “التحريضيّة” باستخدام لغةٍ لم تُصنَع للتحريض بل هم صنعوا منها قاموسهم التحريضي.

لا عتب...

لا عتب على هؤلاء بل على من يعيش حالات “الجرّ” والكسر مرتضيًا باسمًا رغم علمه المُسبق بحالات “النصب” وما أكثرها. لا عتب على هؤلاء بل على من يجب أن يكون فاعلاً وإذ به مفعولٌ فيه وبه ومعه لا لأجله. لا عتب على هؤلاء بل على من يعرف أن الفاعل معلومٌ وغير مجهول ولو تستّر لكشفه نائب الفاعل. لا عتب على “قادة محاور” لا يأخذون من الجَمَل اللغوي سوى أذنه، العتب على من ينادي بـ”اللُحمَة الوطنية” التي لو تجرأ الوزير وائل أبو فاعور على فحصها في أحد مختبراته لوجد أنها غير مطابقة لاحتوائها على سالمونيلا لغوية وطاعون قواعدي وجراثيم لفظية.