في أربعينات القرن الفائت، سَخِر الزعيم السوفياتي جوزف ستالين من الدور الذي يحاول الفاتيكان أن يضطلع به في توازنات الدول الكبرى، وسأل: كم فرقة عسكرية يمتلك البابا؟

خلافاً للانطباع المتفائل الذي أعطي لكلام السفير البابوي في ​لبنان​ غبريال كاتشيا، فإنّ التعمُّق في ما قاله السفير يوحي باستمرار التعثّر في انتخاب رئيس للجمهورية إلى حدود غير معلومة.

فبالنسبة إليه، لا انتخابات في الأشهر الثلاثة المقبلة... و»ابتداء من آذار، يصبح معقولاً انتظار معطيات... توحي بالتقدّم في الملف»! وهذا الكلام يحمل في طيّاته من التشاؤم ما يكفي. لكن هناك قوى سياسية مستفيدة من زرع الأجواء المتفائلة و»تنويم الناس» على حرير الانتظار، لملء الوقت وإسكاتاً للأصوات الاعتراضية.

لكنّ المؤكّد هو أنّ السفير البابوي، بتعليمات من الفاتيكان، وبدعم ديبلوماسي فرنسي، يؤمِّن تغطية معنوية للحراك الذي باشر فيه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي تجاه القادة المسيحيين، لدفعهم إلى تحمُّل مسؤولياتهم ووَقف التجاذبات التي تتيح للآخرين أن يلعبوا ورقة الرئاسة أو الفراغ.

فالنيّات واضحة في باريس والفاتيكان وبكركي. لكنّ المشكلة ليست في هذه القوى التي لم تعُد تمتلك تأثيراً يُذكَر في الملف، ليس على الصعيد الوطني الشامل فحسب، بل حتى على مستوى الوساطة للتقريب بين الزعماء المسيحيين. فهؤلاء مرتبطون باعتباراتهم التحالفية الداخلية، ذات الأبعاد الإقليمية. ولا يمكن لهؤلاء أن يتّفقوا رئاسياً ما دام الصراع في ما بينهم يتخذ منحى شخصياً في الشكل، لكنّه في العمق صراع الوكلاء بين المحاور الكبرى.

وتالياً، إنّ التفاهم بين القوى المسيحية على الرئاسة بات يحتاج إلى إذنٍ خاص من الحلفاء غير المسيحيين هنا وهناك. وإذا ما توافر هذا الأمر، أي إذا توافقَ الحلفاء غير المسيحيين على ملف الرئاسة، فإنهم لا يعودون في حاجة إلى استئذان المسيحيين وزعمائهم الذين ينشغلون بـ»التمريك» بعضهم على بعض.

لقد مَرّ صيفٌ على الفراغ الرئاسي، وسط وعود كثيفة بانتخابات في الخريف، وفي الحدّ الأقصى خلال العام 2014. واليوم يتكرّر السيناريو لتقطيع النصف الأول من العام 2015. ووفقاً لأشدِّ المتابعين تفاؤلاً، وبناء على توقعات السفير البابوي، سيَمرّ الشتاء بلا رئيس، أمّا الأمل فيبدأ بالظهور في الربيع. لكنّ أحداً لا يستطيع ربط الوعود بالمواعيد، لأنّ حسابات الرئاسة على أرض الواقع تختلف عمّا هي في عالم التمنيات والنيات الطيبة.

فالقادرون على قول كلمتهم في ملف الرئاسة، ولا سيما محور إيران- دمشق- «حزب الله»، لم تنضج ظروفهم بعد للافراج عن الاستحقاق. ومع مطلع العام 2015، سينخرط تيار «المستقبل» في الحوار مع «حزب الله» سعياً منه إلى إيجاد الحلول للملف الرئاسي والحدِّ من الاحتقان المذهبي. لكن ما يهمُّ «الحزب» من الحوار هو ثلاثة عوامل فقط:

- جَرّ «المستقبل» إلى حوار يوافق فيه ضمناً وظرفياً، أو يسكت، عن سلاح «الحزب» وتدخّله في القتال السوري.

- إستعادة براءة الذمّة من السعودية والقوى العربية الأخرى الحليفة لـ»المستقبل»، عن طريق تصوير «الحزب» طرفاً شيعياً محاوراً لا حزباً يساعد النظام السوري في مقاتلة شعبه.

- تنفيس الاحتقان السنّي- الشيعي بما يمنع انفجار الفتنة المذهبية في لبنان. ويلتقي هذا المسعى مع سَعي «الحزب» إلى فتح قنوات المقايضة مع «داعش» و«النصرة»، وحصر المواجهة - على الأرض اللبنانية- بين هذين التنظيمين والدولة، وليس بينهما وبين «حزب الله».

أمّا ملف الرئاسة فقد يتوافق عليه هؤلاء أو لا يتوافقون، ولكن ضمن السلّة الكبرى. فهو لم يعد يستأهِل أن يتسبّب بمشكلة بين الطرفين.

وحتى حصول ذلك التوافق، الذي قد يحصل في الربيع أو لا يحصل، سيبقى ذوو النيّات الحسنة، من بكركي إلى الفاتيكان وباريس مروراً بحريصا، يحاولون ويطلقون الوعود. ولكن، يمكن طرح سؤال ستالين بطريقة أخرى: «كم فرقة عسكرية يمتلِك السفير البابوي»؟