لم يأت التقارب التاريخي بين الولايات المتحدة الأميركية وكوبا من فراغ، أو صدفة او صحوة سياسية أميركية او كوبية، لم يحصل نتيجة مطالعات نقدية بسيطة أجراها الرئيس الأميركي باراك أوباما أو نظيره الكوبي راؤول كاسترو على اساس الجيرة.

اسباب عدة فرضت على الأميركيين والكوبيين سلوك توجهات استراتيجية جديدة شكلت إنقلاباً على نهج امتد منذ ستينيات القرن الماضي، ولن تقف فقط عند حدود المصالحات وإعادة العلاقات الدبلوماسية، بل ستتمدد نحو تأسيس تحالفات عريضة في زمن التوازنات الجديدة.

لعب الفاتيكان دوراً أساسياً في تقريب المسافات بين الطرفين، إنطلاقاً من قدرة البابا فرنسيس على التواصل مع الكوبيين والأميركيين، والهواجس الفاتيكانية-الغربية من "الأسلمة" التي باتت تجتاح الغرب بنشر أفكار "داعشية" تجد صدى واسعاً في أوروبا بشكل أساسي والتمدد نحو القارات الغربية الاخرى.

قدرة البابا فرنسيس على التواصل مع اليساريين ساهمت في تقرّبه من الأنظمة الشيوعية. لم تعد أزمة الثقة موجودة أو عدم التواصل قائماً. في المدة الأخيرة أطلق البابا أفكاراً تقدمية في هذا الشأن: في خطاب له أمام الأكاديمية البابوية للعلوم في الفاتيكان، قال إن نظرية التطور لا تتعارض مع رواية الخلق المذكورة في الكتاب المقدس، ونظرية الإنفجار الكبير لا تتعارض مع التدخل الإلهي، بل تكملها. بالنسبة الى اليساريين يعبّر البابا في ذلك عن إنفتاح قلّ نظيره في الكنيسة الكاثوليكية.

من هنا جاء ترسيخ التقارب الروحي بين كوبا والفاتيكان وصولا الى إلإعلان عن بناء كنيسة في هافانا بعد 55 سنة من منع وجود كنائس في البلاد، رغم محاولة فاشلة قام بها البابا الراحل القدّيس يوحنا بولس الثاني أثناء زيارته الى كوبا عام 1998 لإقناع "الكاسترويين" ببناء الكنائس، لكن من دون جدوى.

نجح فرنسيس في وصل ما إنقطع، وخطط لرأب الصدع بين كاسترو والإدارة الاميركية، ساعده في ذلك الواقع الكوبي المتردّي اقتصادياً: شيخوخة في الحكم تدفع نحو خروج البلاد من وهج الإشتراكية والحالة الثورية التي باتت في غير زمانها.

حاول كاسترو مراراً القيام بحملات إصلاحية لم تصل لنتائج عملية. تراجُع الإمكانات المادية عند فنزويلا التي تعتمد كوبا على نفطها. ثم جاء إنخفاض أسعار النفط ليزيد الأزمات، إضافة الى شروط الروس والصينيين في شأن المساعدات المالية لكوبا نتيجة وجود عشرات الاتفاقيات المشتركة المشروطة بإصلاحات. كلها عناصر ساهمت في توجه القيادة الكوبية نحو القبول بالتصالح مع واشنطن عبر الفاتيكان.

بالنسبة الى البابا فرنسيس فإن الغرب المسيحي يتعرض لهجمة "اسلامية" تنطلق من أفكار إرهابية "داعشية" بدليل وجود آلاف المقاتلين الأوروبيين في سوريا تحت عنوان "الجهاد". يوميا تصدر تقارير عن "أسلمة" تجري وفق المفهوم المتشدد في صفوف الشباب ومن جميع الجنسيات حتى بات خطر "الأسلمة" عابرا للقارات.

في المانيا مثلاً خرجت تظاهرات شارك فيها عشرات الآلاف ضد "الأسلمة". وفي بريطانيا وأوستراليا وبلجيكا وفرنسا ودول أخرى قلق بالغ، في ظل سؤال: كيف نواجه المد الاسلامي والحركات المتطرفة؟

بالنسبة للأميركيين ليست الأولوية لمسايرة الفاتيكان ولا الرغبة بالتصالح مع كاسترو. كان يعلم الأميركيون ان وضع كوبا الإقتصادي يتدهور، ولم تعد فنزويلا قادرة على إسناد القيادة الكوبية مالياً، وجاءت اسعار النفط الهابطة تُربك حلفاء كوبا، ما يعني حاجة الكوبيين للأميركيين وليس العكس.

فهل يسعى باراك أوباما للدخول في التاريخ الأميركي كرئيس انجز مصالحات تاريخية بين بلاده وكوبا، او مع ايران؟.

قد يكون هذا دافعاً لتوجهات أوباما الذي سعى لانتاج حل للصراع الفلسطيني-الاسرائيلي أيضاً. لكن الادارة الاميركية تبتغي اكثر من الوصول الى حلول لقضايا سياسية عالقة منذ عقود. بالدرجة الاولى تريد التفرغ لمقارعة الروس ومحاربة "الدواعش". هنا تكمن الخطة الاوبامية بحسب ما تحدث مطلعون أميركيون. تصحيح العلاقة مع كوبا يقرّب واشنطن من هافانا على حساب موسكو وبكين.

أوباما كان حدد سابقا عناوينه: التفاوض مع ايران بشأن برنامجها النووي، العمل على وقف الصراع في سوريا، ضمان إمدادات النفط (احد اسباب الصراع مع موسكو)، واتفاق السلام بين اسرائيل والفلسطينين.

لا تبدو الاولوية الأميركية لحدائق الولايات المتحدة. للادارة الاميركية مصلحة بسحب البساط الروسي من دول أميركا اللاتينية والتفرغ للمسائل الاستراتيجة.

الاهتمام الأميركي ينصب بمنطقة البحر الاسود حيث يكمن الصراع الحقيقي مع روسيا حول النفط وامداداته. رغم كل المتغيرات الدولية لا تزال روسيا هي الخصم الاساسي للأميركيين. ومن هنا يبدو السباق على منطقة البحر الأسود التي كانت بعيدة عن مسرح السياسة الدولية، لكن الوضع الجيوسياسي في البحر الأسود جعله مقصدا ومطلباً دوليا بسبب اكتشاف حقول غنية بالنفط والغاز في جرف بحر قزوين وكازخستان وآسيا الوسطى، ووجود ممر هام لعبور حوامل الطاقة بين منطقة بحر قزوين وأوروبا وغيرها من مناطق العالم.

فالبحر الأسود وجنوب القوقاز يلعبان دوراً استراتيجياً فيما يتعلق بمصالح الأميركيين في الشرقين الأوسط والأدنى، والعمليات العسكرية في أفغانستان والعراق. ولذلك تكمن أولوية التركيز الأميركي هنا وليس في سوريا التي يحتاج الأميركيون لضبط أزمتها بعدما اصبحت منطلقاً لإرهاب "داعشي" يتمدد نحو الغرب و"يُؤَسْلِم" المسيحيين ما يثير اعتراض الفاتيكان الساعي مع الولايات المتحدة لتوحيد الجهود الدولية ضد مخاطر " داعش" المباشرة وغير المباشرة.

عوامل عدة تجتمع لتؤسس لمرحلة دولية جديدة يغذيها التقارب الأميركي - الإيراني. بعد كوبا ستكون سوريا في عين الأميركيين عبر فتح القنوات لعلاقة تنطلق من التعاون ضد الارهاب. لكن ما يؤخر الاتفاق هو الصراع الروسي-الأميركي. بما ان الازمة الكوبية-الاميركية حُلت والعلاقة الإيرانية مع الولايات المتحدة في طريقها السليم. لا تبدو التسوية حول سوريا مستبعدة ولو بعد حين.

هل كان تصحيح العلاقة بين كوبا والولايات المتحدة متوقعاً؟ ما فعله الفاتيكان بينهما يمكن ان يكرره حول سوريا خصوصا ان الخطوط بين روما ودمشق مفتوحة بالاتجاهين والبحث يجري حول اعادة فتح السفارتين.