ها هو الميلاد على الأبواب لنعيّد ككلّ عام، وكما علّمتنا أمّنا الكنيسة، من خلال الأهل والمدرسة والرعيّة، أنّ ميلاد مخلّص الكون أي خالقه، هو ميلاد الله المتجسّد، يسوع المسيح. فإذا كان الله قادراً على خلق الكون، أفلا يقدر أن يخلّصه كيفما شاء وحينما شاء؟ ولكنّه أراد أن يخلّصه بتعاون كلّ منّا. فهو يحتاج إلى كلِّ شخص فينا فكرًا وقلبًا ويدين وقدمين... ولكنّ السؤال الذي يراودني دوما هو: ممّ خلّصنا بتجسّده؟

لقد تعلّمنا وآمنّا أنّ المسيح خلّصنا من الخطيئة، بأنّه أعاد إلينا نقاوة الخلق الأوّل "وطهّرنا من معاصينا". لقد بُشّرنا وبَشَّرنا منذ الميلاد وإلى يومنا هذا، وما زلنا نبشِّر بأنّ ميلاد المسيح حمل إلى عالمنا السلام والحبّ والوئام، بأنّ ميلاد المسيح غفر لنا وعلمّنا المغفرة "كما نحن نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا"، وبأنّ "في الحقيقة، لا تُلقى الأضواءُ الحقّة على سرّ الإنسان، إلّا من خلال سرّ الكلمة المتجسّد" (المجمع الفاتيكاني الثاني). فاكتسبت حياة الإنسان معناها من سريّ التجسّد والفداء اللذين بهما رممّ المسيح في ذريّة آدم المثالَ الإلهيّ الذي شوّهته وما زالت تشوّهه الخطيئة. ولكن عندما ننظر من حولنا أو إلى بلدنا الحلم لبنان، كما كان يحلم به سعيد عقل، ووديع الصافي وصباح والكبار أمثالهم، يخيّل إلينا أنّ المسيح لم يتجسّد بعد.

فها هو عالم التناقض الذي نعيش فيه. أما حاول هيرودس قتل ملك الملوك وقتل جميع أطفال بيت لحم ليطمئنّ ويحافظ على كرسيّ عرشه؟ أما حاول اليهود أكانوا فرّيسيين أم كتبة من إسكات صوت الحقّ ورفض "المعلّم" بينهم؟ ألم يحاول الملايين عبر الزمن إفشال مخطط الله الخلاصيّ؟ ولكنّ المسيح لم يرضخ للقتل (في بيت لحم) والتهجير (إلى مصر) وللتهديد والتنكيل وللتعذيب والاضطهاد والصلب. فالمسيح لم يتراجع عن مشروعه الخلاصيّ. فهو الثائر الأوّل والمعترض الأوّل على الظلم والديكتاتوريّة. هو المعترض الأوّل على انحباس المحبّة، والمدافع الأوّل عن حقوق الطفل (دعوا الأطفال يأتون إليّ) والمرأة (من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر أو مع السامريّة على البئر) وكرامة الجنس البشريّ وحقوق الإنسان والمساواة وإحقاق العدل بين الشعوب. فهو من حمل راية الفقير والمتألّم والمريض والمسجون والظمآن والجائع، أمسيحيّا كان أم لا. فهؤلاء هم من تجسّد من أجلهم وهؤلاء هم اليوم من زالوا يعانون من "فريّسيي وكتبة" الدولة اللبنانيّة وأحكام وسلطات وسياسة إلغاء الآخر وقتله التي تحيط بنا، أو التي تنبت "باسم الله" كحركات أصوليّة ومنظمّات إرهابيّة ولا نعرف من أين. فها هم المسؤولون اليوم يتصرّفون وكأن ّ المسيح لم يتجسّد بعد. لا يبالون لاستحقاق رئاسيّ ولا لمجتمع يتحضّر ولا لحقوق تُنتهك ولا لتشريد وتهجير وخطف وفقر ومعاناة ومأساة. أليسوا هم من يقاومون ويرفضون تجسّد ابن الله ويعملون على عدم تحقيقه؟ أليسوا هم من سيسمعون اوّلا كلمات الطفل المتجسّد: "اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ، لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضًا وَمَحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي." أليسوا هم من يهدم ما بناه المسيح وجاء من أجله؟ أليس على كلّ منّا وعليهم بالأكثر، لأنّهم في المسؤوليّة، يتكّل الربّ ليحقّق تجسّده اليوم في عالمنا وبإرادتنا ويعطي معنىً لحياتنا التي أصبحت مشدودة إلى ما هو زمنيّ وأرضيّ أكثر منها إلى ما هو روحيّ وسماويّ؟

فماذا ننتظر اليوم لنغلّب المصلحة العامة على المصالح الشخصيّة والمنافع والأطماع والمكاسب والمغانم؟ أهكذا نبني وطنا؟ أهكذا نثقّف ونربّي أجيالاّ؟ أهكذا نحلم بمستقبل أفضل؟ أهكذا نعيّد ميلادا؟ أهكذا سنرتّل ترتيلة "ليلة الميلاد يُمّحى البغض... ليلة الميلاد تدفن الحرب، ليلة الميلاد ينبت الحبّ..." فمن هنا دعوة ومسؤوليّة الأقليّة-الأكثريّة التي تُعتبر الخميرة في العجين لإيصال ما تعلّمناه من الكنيسة والإنجيل إلى النخبة من الطوائف كافة لنتشارك وإيّاهم الحقوق والواجبات نفسها، وليصبح هذا الشرق وهذا الوطن ما تجسّد من أجله المسيح وما دعانا إلى أن نحقّقه بإيماننا به، ولنحافظ على لبنان وطنا أزليّا سرمديّا يقينا شرّ الأيّام ويحفظ كرامة أهله مستحقّين لقمة العيش والبقاء.

فـ"تعال أيّها الربّ يسوع تعال". تعال إلى كلّ قلب منّا لألتقيك في قلب الآخر ويلتقيك في قلبي أنا، وهكذا سويّة نحقّق ما أعجز عن تحقيقه منفردا. تعال أيّها الربّ يسوع تعال، على الرغم من رفضهم لك ولتعاليمك بأن تكون وحدها هي الحلّ فعلى الأقلّ تبقى أبدا الطريق إلى الحلّ، كما كانت مريم "الطريق" الذي اخترته لتصبح الكلمة بشرًا. تعال أيّها الربّ يسوع تعال لأنّك الحبّ المتجسّد، وفي الحبّ مغامرة. فالمحبّة أمر خطير لأنّها تتطلّب من كلّ منّا، على مثالك، فتح قلبه وسماع الآخر والمجازفة والقبول بالمفاوضة.

تعال أيّها الربّ يسوع تعال، لأنّك حقيقةً تجسّدت على الرغم من أنّ مفاعيل تجسّدك لم تُستثمر كلُّها بعد.

الأب المدبّر حنّا طيّار - مدير جامعة سيّدة اللويزة- فرع الشوف