لا يمكن البحث في سلوكيات الحوار ومعاييره، وكأنها مجرد حراك معدّ من إرادة خارجيّة تتوسّل الاستقرار في الداخل اللبنانيّ، فيما العنصر الداخلي مجرّد أداة تتحرّك لتجسيد الهدف. حتمًا موقع لبنان مشتهى لكلّ خارج راسخ، والتاريخ حافل بمجموعة وصايات حلّت مكان اللبنانيين فتحاربت طورًا بهم فسفكت دماءهم وأحرقت حياتهم ودمّرت ممتلكاتهم، وفي أوان التسويات تلجأ الدول إلى بعضها فتؤسّس لها من جيوب اللبنانيين وعلى حساب مصالحهم وكرامتهم.

التساؤل المطروح في مسرى النقاش والتوصيف، هل المطلوب هو الحوار لأجل الحوار، أو المطلوب الحوار لتصحيح المسار، وتأمين الاستقرار، وتجديد الدماء في جمهوريّة تآكلها الصدأ، وصوتها ابتلعه الصدى، حتّى أمست بلا مدى؟ مسؤول سياسيّ سابق ومخضرم، استوقفه تصريح العماد ميشال عون بعد اجتماع تكتل التغيير والإصلاح خلال الأسبوع المنصرم، حيث قال بأنّ المشكلة ليست في الرئاسة بل في الجمهوريّة، وكرّر العبارات نفسها، في حديث آخر حيث قال: "أنا مرشح ولن أعطي صوتي أو أتنازل لأحد. إذا أرادوا انتخاب رئيس من دوني فلينتخبوا. لن أوافق على أيّ رئيس. والأسباب عديدة. أريد جمهورية ولا أريد رئيساً للجمهورية. لا أريد جمهورية بلا دستور وقوانين وبلا مؤسسات وحسابات مالية وجبايات وضبط الإنفاق وقطع حساب ويعشش فيها الفساد"، فعلّق قائلاً: "معظم التسويات الحاصلة في ملفّ رئاسة الجمهوريّة على عهود عديدة، تمحورت حول شخص الرئيس وصفته وارتباطاته، ولم تنطلق من الجمهوريّة عينها، التي تبعثرت بالمطلق بعدما تعثّرت في خطواتها نحو التجدّد... المسألة السياسيّة ركزّت دومًا في الشخص وليس في النظام، عهود كثيرة تبدلّت وظلّت أزمة النظام السياسيّ في لبنان على اشتدادها، فكيف والنظام السياسيّ، في ظرفه الحاليّ، محاط بعواصف هوجاء ورياح عاتية دمّرت مقومات الحياة في سوريا وغيّرت في تماسك النظام السياسيّ في العراق؟ وأكمل تعقيبه على كلام عون، معتبرًا بأنّ المشرق العربيّ بمعظمه يعيش أزمة أنظمة وأزمة هويّة لكونها تخلخلت واهتزّت، فكيف بنظام هشّ ومعطوب في لبنان ممسوك بإرادة الغير وغير متماسك بإرادة اللبنانيين، فحين تنتفي حاجة الإمساك ووظيفتها فحتمًا سيجد لبنان نفسه في مكان قصيّ خال من إمساك وغير محضون بالتماسك، حينئذ يترك أمرنا لتدبير أوسع لنصير مرتبطين بنظام المنطقة ككل وخطوطها، ملحقين بها ومؤسسين على محتوياتها، كما كنّا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بولايات كدمشق وعكّا، سواء بنظام القائمقاميتين أو المتصرفيّة، وظل جبل لبنان هو لبنان الصغير".

وينهي المسؤول السابق مداخلته معتبرًا بأنّ الطائف لم يكن تكوينيًّا بل عملية تسووية تمّت الإطاحة بها بفعل الواقعية السياسيّة، وبصفقات تمّت على حساب لبنان بين الأميركيين والسوريين. واستدامت الإطاحة بالتسوية، بعد خروج سوريا من لبنان، لكون لبنان خرج من وصاية إلى مجموعة وصايات حولته ملعبًا. فهل يتقوقع الحوار بين حزب الله وتيار المستقبل، أو التيار الوطنيّ الحر والقوات اللبنانيّة، في مسألة الرئيس ومن يكون في ظلّ إشارات تستبعد الاتفاق على الانتخابات الرئاسية في المدى المنظور، أو سيلمس الأفرقاء المعنيون بالحوار، بأنّ إعادة الاعتبار إلى الجمهورية والعمل على تدعيمها وصونها وحصانتها هو المطلوب في ظل استقراء النتائج المطلّة خلف الغيوم الداكنة، حينئذ يسهل الاتفاق على شخص الرئيس وصفته؟

إنّ قراءة المسؤول السياسيّ السابق بإطارها العميق، لفتت الانتباه إلى أنّ الملفّات المتراكمة في بنية الجمهوريّة كالتمديد للمجلس واختطاف العسكريين في جرود عرسال ومسائل أخرى كالفساد الماليّ، تشي بأنّ الصراع ليس في المطلق سياسيًّا بل نحن في صراع مفاهيم جوهريّة جاءت الأحداث في سوريا والعراق لتفجّرها من جديد في علاقة المكوّنات ببعضها البعضّ، وعلاقتها بالهويّة، بصورة جماعيّة أو فرديّة. فالتمديد للمجلس النيابيّ وعدم انتخاب رئيس للجمهوريّة دلّ ولا يزال يدلّ على تلك الأزمة العميقة، وهي أزمة الهويّة التي غدت بأساسها أزمة نظام ودستور ووطن وأديان على مساحة الجغرافيا اللبنانية وامتدادًا نحو أرض المشرق المحترقة.

يزيّن لكثيرين بأنّ الحوار لا يمكن أن يقف عند حدود تنفيس الاحتقان في الصفين الإسلاميّ والمسيحيّ. التحدّد والتجمّد في هذا الهدف والاستبقاء على العناوين الخلافيّة الجوهريّة خارج إطار المعالجة والحوار البنّاء من شأنه ان يبقى قنبلة موقوتة تنفجر تباعًا باللبنانيين، فتنتفي الحدود المرسومة وهي حدود شكليّة للحوار. فبين حزب الله والمستقبل أو التيار الوطنيّ الحرّ والقوات اللبنانيّة تتلاقى العناوين بل تتوحّد، ولكنّها تختلف في الخصوصيّات وفرادتها.

خصوصيّة الحوار الأوّل إسلاميّة ومذهبيّة، وخصوصيّة الحوار الثاني مسيحيّة. في الخصوصيّة الأولى، يستبدّ الصراع المذهبيّ بآفاقه الواسعة المنتشرة في سوريا واليمن والعراق، وتتشعّب العناوين وبخاصّة مسألة قتال الحزب في سوريا ومسألة السلاح، يعرف فريق المستقبل على الأقلّ، أن البحث في تلك المسألة عقيم حتى الوصول إلى تسوية تكتبها نتائج الصراع على الأرض. لكن هل العقم سيمسّ العناوين الداخليّة كمسألة الرئاسة وقانون للانتخابات، أو أنّه سينفجر بصورة إيجابيّة والقبول بتسوية تأتي بالعماد عون رئيسًا للجمهوريّة وسعد الحريري رئيسًا للحكومة في إطار ما يسمى بالـpackage deal؟ هذا سؤال مطروح للنقاش. ذلك أنّ الحزب لا يزال في أدبياته يؤكّد إصراره على ترشيح ميشال عون، وما الجواب الصادر عن إيران للفرنسيين ولفرنسوا جيرو سوى العنوان العريض الذي لن يكون الاتفاق عليه إسلاميًّا بل سيلتقي حتمًا مع الخصوصيّة الخاصّة لنتائج الحوار بين عون وجعجع.

أمّا الخصوصيّة الثانية فهي من دون شكّ لا يمكن لها أن تتوقّف في محدوديّة العناوين الصغيرة، في ظلّ الأزمة الوجوديّة التي يعيشها المسيحيون في المشرق العربيّ. أخطر أزمة يعيشها مسيحيو لبنان هي أزمة الهويّة بين العماد عون و​سمير جعجع​. ذلك أنّ الأوّل جسّد الرؤى المشرقيّة عند الموارنة، وربطها ببقاء المسيحيّة في سوريا والعراق والأردن وفلسطين، فيما الثاني لا يزال يقرأ بأنّ بقاء سوريا بخصوصيّتها ضارّ بالمسيحيّة، وحتمًا إن لجعجع حسابات ومآرب أخرى قائمة في صلب العلاقة بالمملكة العربية السعوديّة.

إن هدف الحوار الاستقرار. لكنّ الاستقرار لا يبنى على تسويات تغفل مسائل حساسة كالجمهورية والهوية مكتفين برئيس توافقيّ يؤمّن ديمومة الأزمات ويشهد عليها، بل يبنى على قراءة جديدة وتجديدية لاتفاق قد تكتب له الحياة بتجسيد المناصفة الفعليّة، أو تجسيدها عبر قراءة تأسيسيّة تنقذ الجمهوريّة من أتون النار المشتعلة في المحيط. إصلاح الجمهوريّة هو العنوان الرئيسيّ، ولا تستقيم وتنهض إلاّ بتلاقي الخصوصيتين وتوسيع رقعة الحوار لإنقاذ وطن كتب له المضيّ من خطر إلى خطر، ويهتزّ تحت وابل الأزمات المتفجرة دومًا على أرضه وبأبنائه.