قاسية تلك العبارة-العنوان التي ساقها المطران جورج خضر في توصيفه للحالة المسيحيّة على كلّ المستويات. جاءت في كتابه "لو حكيت مسرى الطفولة" منذ سنة 1978، والمسيحيون إلى انحدار عميم، لا يفقهون الرؤى ولا يلعبون لعبة الوجود، في كيان عظيم أعطي لهم في البدء، وافترضوا أنّهم ولدوا منه، ولكنّهم لم يولدوا بعد.

أن يعود المرء إلى تلك العبارة في زمن الميلاد، يعني ذلك أنّ المسيحيين المقبلين بعد غد إلى العيد يرونه دمية يلهون بها للحظات، أو اختطافًا رومانسيًّا بألوان الزينة المختلفة، واللقاء العائليّ، والطعام الفاخر، فيما هم بعيدون كلّ البعد عن الحقيقة المسيحانيّة التي انكشفت بالوجه الإلهيّ طفلاً مرميًّا في ظلمة المغارة، ملفوفًا بالأقمطة وليس كما كان في الأزليّة مقمّطًا بالضباب، وكأنه بهذه الصورة كاتب وراسم موته ودفنه... مأساة المسيحيين أنّهم في طلاق كامل مع مسيحهم، ومع الرؤى المنبثّة من دماء سفكت على مرّ التاريخ حبًّا بمن تجسّد وصلب ومات وقام من بين الأموات. ولذا، قد غدوا مجرّد كائنات بيولوجيّة يترفون بالفرح الخارجيّ، ويترعون كؤوس الخمر الفاخر، ولا يلبسون المسيح الذي لبسهم بتجسّده، فتمرّ الأيّام حراك أزمنة، وهم تراب.

عدد كبير من المفكرين المسيحيين طرحوا مجموعة أسئلة كثيرة عن الوجود، لكنّ السؤال الأكبر، المطروح الآن في ظلّ تراكم الأحداث وامتدادها وتشعباتها، ما هي قضية المسيحيين الحقيقيّة في هذا الوجود؟ لم يتضح حتّى الآن الجواب عند المسيحيين الحداثويين بالمطلق، معظمهم أطلّوا على المسيحية بالرموز، ولكنّهم لم يدركوها بدم المسيح نفسه المهراق على الخشبة. هل ثمّة إدراك بأنّ هذا الدم عينه قد صار دمهم ليس فقط بالنعمة والمعمودية والمناولة، بل كيانيًّا بالكلمة المبنيّة على هدف التجسّد أي الميلاد، وهو الموت المطلق الذي انتهى بالفصح، وبالشهادة اللامحدودة التي قدّمّها المسيحيون في القرون الأولى وصولاً حتّى الزمان المعاصر؟

ما هي قضيّة المسيحيين سوى أن يبقى المسيح كلمة من رحمه تولد الكلمات، وجسدًا مديدًا قائمًا في صلب التاريخ ويتجدّد به. لمَ اقتحم المسيح التاريخ، لماذا جعل من هذا المشرق جسدًا له، وقرّر أن يسفك دمه فوق تلّة القدس، وهو سفك ويسفك بدماء مسيحيي المشرق العربيّ؟ لماذا دعي ناصريًّا ومشى فوق تراب هذا المدى من الجليل إلى صور وتخوم صيدا؟ لماذا في أنطاكية دعي المسيحيون أوّلاً؟ لم يأت هذا من عبث. بل جاء معبّرًا عن ذاتيّتنا، وقد ارتضى السيّد أن يوحّد نفسه بها ويجعلها جزءًا من ذاته الكونيّة وهي في البدء أزليّة. المشكلة التي لم ندركها حتى لحظاتنا هذه، أنّ كمال الأزمنة حلّ في أحشاء مريم في ملء الزمان. ليس الملءُ محصورًا في ذلك التاريخ الذي ولد فيه المسيح، بل هو الآن وكلّ آن. ليس هذا قائمًا في إحساس من تسمّوا مسيحيين، هو قائم في بعضهم ويحتدم بهم بسبب انتسابهم الكيانيّ. ولكنه محجوب بل مفقود في حقيقته عند معظم الذين سيقبلون إلى ميلاد المسيح بلا مسيح يحملهم برقته وحنانه وطهره وجلاله.

ما ينبغي ذوقه بالعمق وإدراكه بشفافيّة مطلقة، أنّ قضيّة المسيحيين وجوديّة، هذا لا يرى بالتحليل السياسيّ المبسّط. بل يرى بالعيش والالتصاق بحقيقة الصفة التي اكتسبها المسيحيون. هي ليست صفة بحدّ ذاتها، هي المسيح الذي به اعتمدوا فلبسوه، فهل خلعوه عنهم ليظل صليبه عبثيًّا وكأنه لم يتجسّد بعد، لم يظهر في المذود طفلاً إلهًا، بل ولد كطفل صغير ترابيّ. ولذلك سهل على من شاء اضطهادهم اقتلاعهم من أمكنة كثيرة كالعراق وسواها، وكثرت الهجرة في أوساط المسيحيين اللبنانيين والسوريين وسواهم إلى الخارج.

لا يمكن، وبهذا المعنى، تسويغ الهجرة من الباب السياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ البحت. هذا تبسيط للحقيقة أو مجافاة لها. فإذا شئنا مقارنة المسيحيين بسواهم من الطوائف الإسلاميّة، لرأينا المسلمين سواء كانوا سنّة أو شيعة أكثر لصوقًا بالأرض، لأنّ قضيّتهم هي الإسلام سواءً كان وسطيًّا أو متشدّدًا أو حتى ليبراليًّا. الإسلام هو قضيّة المسلمين بمعنى انتشاره وديمومته، في هذه البقعة أو تلك، في حين أنّ المسيحيّة بشخص المسيح كإله تام وإنسان تام، وما سال من كتابات عقائديّة لاهوتيّة ودماء دفاعًا عن الإيمان المستقيم بوجه الهراطقة أو من ارتأى محاربة المسيحيّة ليست قضيّة المسيحيين... تلك هي المفارقة التي يجب لحظها في المقاربة ولو بدت فجّة.

للمسيحيين خصوصيّة لاهوتيّة ظهرت بكمال التجسّد على الخشبة وسطعت بالقيامة. تلك خصوصيّة تحتاج إلى تربة، إلى أرض للتأصّل في أعماقها وتتوسّع كما حصل في القرون الأولى للمسيحيّة. مأساة المسيحيين بمذاهبهم كلّها، أنّهم لا يسعون إلى توظيف تلك الخصوصيّة بالرؤى السياسيّة والإنمائيّة والاجتماعية والثقافيّة والإعلاميّة. والتوظيف يجب أن يعنى بالتجسيد بمشاريع بنيويّة وإحيائيّة وتربويّة وطبيّة تبقي يسوع المسيح في المشرق العربيّ جوهر كلّ القضايا. لا يطلب هذا الأمر من سياسيّ يتوسّل أن تتماهى طائفته بمشاريعه هو، ولا يطلب أيضًا من الذين لا يملكون قدرة التوظيف والتجسيد أو لا يعرفون قيمته، وبخاصّة من بعض من يسعون لكتابة أسمائهم على جدار من هنا أو هناك. بل يطلب من البطريرك والأسقف والكاهن، يطلب هذا من المؤسسات الكنسيّة، المفترض بها أن لا تتجمّد في الرأسمالية المتوحشّة وتستلذّها، بل أن تتحرّر منها لأنّها بنيت على الإنجيل، ولم تبنَ على أنماط اقتصاديّة وماليّة تبغي الربح على حساب من لا يقدرون على اكتساب العلم أو اكتساب حقّهم في الشفاء.

"المسيحيون لم يولدوا بعد!" حقيقة موجعة بكلّ المعايير الإنسانيّة والأخلاقيّة والروحيّة. يهاجرون كطيور السنونو، يحسبون أوطانهم فنادق بخمسة نجوم، يقفون على أطلال التاريخ ببكاء ونحيب، ولا يحملون من مجده ما يعينهم على الديمومة. مجد التاريخ المسيحيّ سطع بالطفل الإلهيّ المولود في مذود بيت لحم. والطامة الكبرى أنّ المسيحيين لم يجعلوا من هذا السطوع مسرى لبقائهم وديمومتهم في المدى المشرقيّ والعربيّ.

سيقبل العيد، وحده المسيح سيولد، سيحمل الكون كلّه في ميلاده العظيم، ويطوف به إلى بهاء الفجر الطالع من دمه هو. سيبقى المسيح وحيدًا شريدًا في تطوافه، إذا لم يدرك أخصّاؤه، أنّ ميلاده محطة لميلادهم فيه في ذاته. القديس العظيم مكسيموس المعترف قال: "كلّ نفس عذراء يولد منها المسيح"، ومع إيريناوس ذقنا أنّ الكلمة صار جسدًا لنصير نحن كلمة، في بعض الترجمات، الكلمة صار جسدًا ونصب خيمته في حيّنا. إذا لم تقبله خاصّته في ميلاده فسيبقى وحيدًا موجوعًا مرفوعًا على الصليب، حتّى يولد أخصّاؤه به في حيّ نصب خيمته فيه وتسربله جسدًا، فيبقى من تبتّل بحبّه حتى الدم كلمة مضيئة تقتحم الكون يتلألأ بنورها، كما هو بميلاده وعرائه اقتحم التاريخ. التحدي في هذا العيد أن نقبله ونبقيه مشرق المشارق للكون كلّه.