تفاعلت في الأيّام القليلة الماضية عمليّة القرصنة المعلوماتيّة الضخمة التي تعرّضت لها إستديوهات شركة "سوني" السينمائيّة للترفيه (Entertainment Sony Pictures) داخل الأراضي الأميركيّة، حيث تحدّثت الشرطة الفدراليّة الأميركيّة FBI عن إمتلاكها أدلّة لتورّط النظام في ​كوريا الشمالية​ بعمليّة القرصنة، وهدّد الرئيس الأميركي باراك أوباما بالردّ بما يتوافق مع "طبيعة الجريمة"، في الوقت الذي نفت "بيونغ يانغ" أيّ علاقة لها بالموضوع، وطالبت بتحقيق مُشترك مع واشنطن، مع وصفها في الوقت عينه الحادث بالعمل المشروع. فما الذي حصل، وكيف تطوّرت الأمور من مجرّد "قرصنة معلوماتيّة" إلى تهديدات سياسيّة من أعلى المراجع العالمية؟

بداية لا بُد من الإشارة إلى أنّ فيلم "المقابلة" (The Interview) الذي كانت شركة "سوني" تستعدّ لإطلاقه رسمياً هذا الأسبوع(1)، يتناول "سيناريو" من نسج الخيال، يُظهر نظام كوريا الشمالية وزعيمها بمظهر الشرّير لكن بأسلوب كوميدي ساخر، وينتهي بنجاح جهاز الإستخبارات الأميركي (CIA) بإغتيال الرئيس الكوري الشمالي "كيم جونغ أون". وقد رأى مسؤولو إستخبارات غربيّون أنّ "سيناريو" فيلم "المقابلة" يدخل في سياق الحرب الإعلاميّة المُوَجَّهة التي تُنفّذها واشنطن ضد خُصومها السياسيّين والإقتصاديّين في العالم، مشيرين إلى أنّ الإدارة الأميركيّة تعمَد في كثير من الأحيان إلى عمليّات "غسل دماغ" مدروسة عن طريق الأفلام السينمائية التي تتضمّن عرضاً للخير والشرّ بحسب المفهوم الأميركي. وهذا ما يُفسّر، أنّه وقبيل عرض الفيلم في صالات السينما تعرّضت شركة "سوني" لعمليّة "قرصنة معلوماتيّة" ضخمة، أسقطت كل أنظمة الحماية الخاصة بها، وبالتالي إلى إنكشاف كامل شبكتها الداخليّة، ما أسفر عن تسرّب عدد من الأفلام التي لم يحن موعد إطلاقها الرسمي بعد، إضافة إلى وثائق مهمّة ومراسلات غير مُخصّصة للنشر(2). وترافقت عمليّة القرصنة مع تهديدات بالتعرّض لصالات السينما التي ستعرض فيلم "المقابلة" وللجمهور الذي سيُشاهده! وبفعل هذه التهديدات، رفضت مجموعة كبيرة من دور العرض فتح شاشاتها أمام الفيلم المذكور، مُفضّلة عدم الدخول في المتاهات السياسيّة الطابع، الأمر الذي دفع شركة "سوني" إلى الرضوخ بدورها لضغوط "القراصنة"، وإلى إلغاء الإطلاق الرسمي للفيلم، مع تأكيدها أنّ البحث مُستمرّ لإيجاد بدائل تسمح للجمهور العريض بمشاهدته، حفاظاً على ماء الوجه من جهة ومواكبة لضغوط الجانب الأميركي من جهة أخرى.

وبالنسبة إلى الإتهام الأميركي لكوريا الشمالية بالوقوف وراء الهجوم الإلكتروني، فهو جاء بعد أنّ أظهر تتبع خريطة الهجوم المعلوماتي من قبل المحقّقين الأميركيّين أنّه إنطلق وبشكل مُتزامن من أكثر من مصدر داخل القارة الآسيوية، من بينها الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وهو إستمرّ وبشكل مُنسّق لفترة زمنيّة طويلة، ما يؤكّد وجود جهاز إستخبارات مُحترف وتابع لدولة كبيرة وراء العمل برمّته، وليس مجموعة من "قراصنة" المعلوماتيّة الساعين إلى الشهرة أو إلى إلحاق الضرر من باب التسلية. إشارة إلى أنّه تُوجد في كوريا الشماليّة وحدة خاصة بإسم "المكتب 121"، تضمّ خبراء في تكنولوجيا المعلوماتيّة، تعمل كوحدة مُكمّلة لجهاز الإستخبارات في كوريا الشمالية، علماً أنّ الأخير مُرتبط مباشرة بمكتب الزعيم "أون"(3).

وبالنسبة إلى الردّ الأميركي فهو حتمي بحسب أكثر من محلّل سياسي غربي، للأسباب التالية:

أوّلاً: إنّ ما حدث ليس مُجرّد قرصنة معلوماتية بسيطة، بل هو هجوم معلوماتي على شركة داخل الأراضي الأميركيّة، وبخلفيّة سياسيّة، ولأهداف بطابع إرهابي تحاول منع أيّ طرف من السخرية من زعيم كوريا الشمالية المعروف ببطشه وبقساوته المُطلقة على أبناء شعبه قبل الآخرين. وبالتالي، من الطبيعي أن ترضخ شركات تجاريّة أمام هذا النوع من التهديدات التي تستوجب ردّاً من دول متمكّنة ومعنيّة بالحادث، أي من الولايات المتحدة الأميركية هذه المرّة.

ثانياً: من غير الممكن السكوت عن هكذا نوع من القرصنة المعلوماتية، حتى لا تتحوّل إلى سابقة لترهيب أيّ جهة أو طرف من قبل جهاز إستخباراتي رسمي تابع لمطلق أيّ دولة، بمجرّد وجود تباين سياسي أو خلاف ما بشأن أي موضوع مطروح سينمائيّاً.

ثالثاً: إنّ الضربة القاسية ضد شركة "سوني"، أظهرت الإمكانات المتنامية لخبراء المعلوماتيّة في كوريا الشمالية، وحجم الخطر المعلوماتي الذي يُمكن أن يطال أي قطاع حيوي، مثل الإتصالات أو الكهرباء أو شبكات المواصلات، إلخ. في أميركا أو غيرها. وبالتالي، من الضروري أن تثبت أميركا أنّ هذا النوع من "الإعتداءات" لا يُمكن أن يمرّ مرور الكرام ومن دون عواقب.

رابعاً: إنّ مصداقيّة الرئيس الأميركي التي صارت بموقع مُتراجع جداً نتيجة عثراته المتلاحقة في أكثر من ملفّ خارجي، ستبلغ الحضيض إن تراجع هذه المرّة عن تهديداته بالردّ.

وبحسب محلّلين غربيّين متابعين للقضيّة، إنّ ما يؤخّر الردّ الأميركي هو تحضيرات دفاعيّة يتمّ تنفيذها لأكثر من مرفق معلوماتي في أميركا، إحتواء لأيّ هجمات مُنظّمة ومُحترفة في المستقبل، خاصة في حال جرى تبادل الهجمات المعلوماتيّة بين واشنطن و"بيونغ يانغ"، علماً أنّ الأولى مرتبطة بكامل أنظمتها بشبكة المعلوماتية بعكس الثانية المتأخّرة نسبياً في هذا المجال. وفي ما خصّ طبيعة الردّ فهو سيكون-بحسب نفس الخبراء، تسعيراً للحرب الإعلامية ضد النظام الّذي يعتبره الغرب مستبدًّا في كوريا الشمالية، وضد الزعيم "كيم جونغ أون" بالتحديد، بموازاة رفع نسبة إختراقات الدفاعات المعلوماتية لهذه الدولة، لتمرير مختلف أنواع المعلومات الممنوعة عن الشعب الكوري الشمالي من قبل السلطات العسكريّة الحاكمة، وصولاً إلى تنفيذ هجوم معلوماتي مُوجع، في حال ساءت الأمور أكثر بين الطرفين.

(1)بلغت كلفة فيلم "المقابلة" نحو 44 مليون دولار أميركي، وهو من بطولة "سيث روجن" و"جايمس فرانكو"، وكان من المُقرّر أن يُطلق في أسبوع الأعياد.

(2)بلغت كلفة الضرر المباشر ملايين عدّة من الدولارات، بينما قُدّرت كلفة الضرر المعنوي وغير المباشر بمئة مليون دولار، إضافة إلى منع كل موظّفي شركة "سوني" من إستخدام الشبكة الداخليّة لإنجاز أعمالهم اليوميّة الروتينيّة.

(3)يتوزّع العديد من أفراد هذه الوحدة على العديد من الدول، بهدف التمويه، وهم يتحرّكون بحرّية في الخارج بصفة طلاب جامعيّين مُتخصّصين، أو رجال أعمال في مجالات بيع وتسويق برامج الكومبيوتر، أو يديرون شركات مُتخصّصة بمجالات المعلوماتيّة.