.لم تعترف الدول الاستعمارية يوما بسيادة الدول الأخرى و لم تراع ابدأ قرارا مستقلا لهذه الدول ، و كانت سياسة الهيمنة و الاستتباع باستمرار هي السياسة المتبعة من قبلها لوضع اليد على غيرها ، في عملية استحواذ على كل شيء فيها بدءا من تعيين الحاكم وصولا إلى العلاقات الخارجية لتلك الدول مرورا طبعا بسياستها الداخلية و قرارتها الاقتصادية ، و المثل النموذجي في هذا الشأن يمكن رؤيته في الدول العربية الخليجية التي هي في الشكل دول مستقلة و في الحقيقة لا تعدو كونها مستعمرات لبعض دول الأطلسي خاصة أميركا و بريطانيا و فرنسا .

قبل العام 1990، كان الغرب يمارس هيمنته واستتباعه لتلك الدول عبر العمل السياسي الذي لا يستوجب اللجوء إلى القوة العسكرية، وباستثناء بعض القواعد العسكرية المحدودة الحجم والأثر، وبعض الخبراء العسكريين الذين ينتدبون في مهمة "النصح والتوجيه " لجيوش دول الخليج بما يمكنهم لاحقا تنظيم لوائح طويلة بمشتريات الأسلحة الغربية التي لا تستعمل، باستثناء ذلك لم يكن هناك وجود عسكري مؤثر يمكن توصيفه بالاحتلال المباشر.

لكن بعد غزو الكويت و" تحريرها " العملية التي استأثرت الولايات المتحدة الأميركية بالإخراج والإنتاج فيها، تغير الوضع، وقررت أميركا أن تلجأ في بسط سيطرتها على المنطقة إلى استراتيجية الحضور العسكري المباشر الدائم، وان تنفذ انتشارا عسكريا واسعا في الخليج، فابتدعت تبريرا له أو ذريعة له الادعاء بانها تريد "حماية " دول الخليج من "أطماع إيران" التي صورتها أميركا بانها "غول" يريد أن يفترس أشباه الدول تلك عبر تصدير الثورة الإسلامية اليها.

طبعا فتحت الأبواب للأميركي – الذي لا يستأذن أصلا خليجياً في اقتحام داره – وفي اقل من أشهر ثلاثة تغير المشهد العسكري في الخليج حيث زرعت القواعد العسكرية الأميركية من الشمال الغربي للخليج (الكويت) إلى الجنوب الشرقي (عمان) إلى أن شكلت تلك القواعد أرخبيلا عسكريا ادعت أميركا بانه أنشئ لحماية الخليج ودوله، خلافا للحقيقة التي حركت أميركا فعليا لإقامته، فغايته الأصل كانت "تشكيل منظومة عسكرية قريبة " للعمل ضد إيران ولوضع اليد على النفط في المنطقة وتشكيل خط دفاع بعيد لحماية “إسرائيل".

لقد فرضت أميركا على دول الخليج استقبال قواعد عسكرية لجيش أميركي كامل مع كل ما يتطلبه العمل العسكري المتكامل ، فكانت القوة البرية الأساسية في الكويت (الفرقة الأميركية الثالثة و معها قوات خاصة للتدخل السريع) و كانت في السعودية ثم في قطر القاعدة الجوية الأميركية الكبرى في العيديد ( فيها من 100 إلى 110 طائرات F16 أو ما يوازيها إضافة إلى الطائرات العامودية) و كان الأسطول البحري الأميركي الخامس المنتشر في الخليج و قيادته في البحرين ، ثم كانت القواعد اللوجستية الأميركية الكبرى في الأمارات و عمان على مدخل الخليج .

لقد أقيمت هذه القواعد استنادا إلى مبدأ أساس يعتمده الغرب كما ذكرنا و هو الاستئثار بالقوة و حجبها عن الأخرين مدعيا بانه هو المدافع و الحامي لهم .و بمقتضى هذه السياسة أيضا يمنع الغرب السلاح عن الآخر إلا اذا كان هذا السلاح سيستعمل في الوجهة التي تحقق الأهداف الغربية ، و بهذا يفسر كيف أن أميركا سارعت في العام 2003 و فور احتلالها العراق إلى حل جيشه ، و كيف انها حالت بعد ذلك دون تشكيل جيش عراقي يستجيب تنظيمه و تسليحه للأصول و المبادئ العسكرية المعمول به في العالم لبناء الجيوش القتالية القوية ، منعت ذلك رغم انها تعلم بان العراق بحاجة ملحة لمثل هذا الجيش ليواجه أخطار الإرهاب الذي تفشى فيه إبان احتلالها له ، و يحتاجه للحؤول دون النزعات الانفصالية التي تصاعدت فيه بشكل علني .

ورغم حجم التهديدات للعراق في امنه ووحدته استمرت أميركا خاصة والغرب عامة في السياسة ذاتها في حجب السلاح ومصادر القوة عن الدولة العراقية التي تسعى لحماية وحدتها وسيادتها والآن تجاهر أميركا وبكل وقاحة، بخطة تسليح العشائر العراقية وبعض الفئات الشعبية بعيدا عن قرار الدولة ودون موافقتها، في سلوك يمتهن سيادة العراق وامنه ويخرق الاتفاقية الأمنية الموقعة معه (الإطار الاستراتيجي للعلاقة بين الدولتين).

هنا قد يتساءل البعض عن خلفية التصرف الأميركي هذا. و لكننا و عطفا على تاريخ التصرف الأميركي في المنطقة و العالم لا نرى هذا الأمر في العراق شيئا جديدا أو غريبا على النهج الأميركي ، حيث نذكر ، كيف أن أميركا فتحت أبواب مخازنها و مستودعاتها على مصراعيها لتسليح الجيش اللبناني في العام 1983 ، لأجل بناء الجيش الذي يمكن السلطة الكتائبية يومها من تنفيذ اتفاق 17 أيار1983 و فرض انتظام لبنان في الفلك الغربي كليا ، (طبعا لم تكن الأسلحة مجانية فقد فرض على الدولة شراء السلاح و دفع ثمنه ) ، لكن أميركا انقلبت على سياستها تلك و حجبت أي مساعدة و منعت بيع أي سلاح للجيش اللبناني بعد إسقاط 17 أيار في العام 1984 ، و بعد اعتماد الجيش اللبناني عقيدة قتالية تنظر إلى إسرائيل بانها العدو الرئيسي للبنان و أن سورية هي الشقيق الصديق الأقرب اليه.ثم لا ننسى ما قامت و تقوم به أميركا ضد المقاومة من ملاحقة و حصار و تضييق لمنعها من التسلح و امتلاك القوة العسكرية الدفاعية عن لبنان .

أما على الاتجاه السوري فلا نرى السلوك الأميركي بأفضل حال عما هو في العراق لا بل انه ادهى و امر ، حيث أن أميركا و بكل وقاحة تجاهر بانها تدرب و تسلح من تسميهم "معارضة معتدلة" و توفر لهم المعسكرات في قطر و السعودية و تركيا و الأردن من اجل إعداد " الجيش المعارض " الذي يقاتل الجيش النظامي في الدولة ، فأميركا التي حلت الجيش العراقي تريد أن تتخلص من الجيش العربي السوري الذي اذهل العالم بقدراته القتالية و المعنوية و الذي صمد صمودا أسطوريا في الميدان و حقق الإنجاز تلو الإنجاز ، و حفظ وحدته و تماسكه رغم كل المحاولات التي استهدفته .

وفي الخلاصة نرى وبشكل أكيد أن أميركا لا تقدم على نشر القواعد العسكرية ولا على خطة التسليح تلك حبا باهل الخليج وبالعشائر العراقية أو بالشعب السوري كما انها لم تسلح الجيش اللبناني سابقا حبا بلبنان وحرصا على امنه، إنما تقدم على ذلك من اجل خدمة استراتيجية جديدة اعتمدتها كما يبدو بعد فشل خططها واستراتيجيتها في المنطقة الواحدة تلو الأخرى. فأميركا التي يئست من تحقيق خرق استراتيجي في سورية ويئست من احتواء إيران وكبح تصاعد المد الروسي قررت أن تنفذ ما أسميناه "الاحتلال الاحتيالي الناعم " الذي يقوم على ركنين أساسيين:

1) الأول : أرخبيل من القواعد العسكرية يمتد من عمان حتى تركيا بدءا بساحل الخليج الجنوبي مرورا بالعراق ويشكل جدارا يذكر بالستار الحديدي الذي أقامه الأطلسي ضد الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو واليوم يبدو أن الشيء نفسه يتكرر مع الحلف الأطلسي بقيادة أميركية و، ولأجل ذلك و بالإضافة إلى القواعد الأميركية التي ذكرنا و حتى تكون المسؤولية أطلسية ،كانت القاعدة العسكرية الفرنسية في الأمارات التي افتتحت في أواخر أيام ساركوزي، ثم القاعدة الإنكليزية التي قررت بريطانية إقامتها في البحرين مدعية بانها من اجل حماية البحرين من إيران. وبات لهذا الارخبيل العسكري اليوم وظيفة جديدة بعد تصاعد الدور الروسي في المنطقة والعالم، وهو التكامل مع الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية لاحتواء أي تهديد قد تشكله إيران أو روسيا، ثم تشكيل سيف تهديد دائم يشهر بوجه هاتين الدولتين.

2) أما الثاني فيتمثل بالإرهاب عبر دعم و نشر عصابات مسلحة تعمل بقيادتها و أدارتها (أي أميركا) في كل من العراق و سورية ، و لأجل ذلك أنشأت المنظمات الإرهابية و مكنتها من العمل و تخطط الآن لتسليح عشائر السنة العراقيين ب حجم 50 الفا و تخطط لإقامة القواعد العسكرية الخمس في العراق و تخطط لتنظيم جيش بديل في سورية بحجم 25 الفا يعمل بقيادتها طبعا ، و تستمر في دعم عميق لداعش التي أنشأتها و التي لا زالت تتلقى منها السلاح لدى كل ضائقة ( هذا ما حصل علانية مع ادعاء الخطأ في عين العرب في سورية و في جرف الصخر في العراق و الأكثر فظاعة ما تم في الأسبوع الأخير مما قيل أن 500 ممن دربتهم أميركا و أدخلتهم إلى سورية انشقوا و التحقوا بداعش ) .

وإذا كان الركن الثاني من الخطة الأميركية امر سيفرض على المعنيين خاصة في محور المقاومة الاستمرار في مواجهته وهم قادرون على إسقاطه خاصة بعد تراكم هذا الكم الكبير من الإنجازات ضد الإرهاب المسير خليجيا وأميركيا، فان التحدي الكبير سيكون في منع إقامة القواعد العسكرية في العراق والحؤول دون التدخل الأميركي في تسليح العشائر تحت أي عنوان أو ذريعة وهو امر يبدو انه ممكنا خاصة بعد المواقف العلنية التي صدرت عن حكومة العراق مدعومة بمحور المقاومة بكل أركانه.