قيل الكثير عن الغارة الإسرائيلية الدموية على القنيطرة. قيل أنّها حماقة بل مقامرة ارتكبتها من حيث تدري أو لا تدري. قيل أنّ الدماء الزكية والطاهرة التي سقطت ستعيد رسم معالم المرحلة، بل ستنقل المواجهة من مكانٍ لآخر. قيل أنّ المقاومة لن تسكت، وأنّ ردّها سيكون موجعًا، ولو بعد حين، لأنّ الضربة كانت "موجعة" وأكثر.

كلّ ذلك صحيحٌ وقد لا يحتمل اللبس، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ الاعتداء الإسرائيلي "فضح" التورّط الإسرائيلي المباشر في ما يُسمّى بـ"الثورة السورية". لم يعد الدعم الإسرائيلي للمجموعات المعارضة مجرّد "كلام في الهواء"، أو "فبركات" كما يحلو للبعض أن يقول. امتزج هذا الدعم بالدماء، ليؤكد للقاصي والداني أنّ إسرائيل هنا، كما كانت منذ اليوم الأول.

الغارة الأكثر خطورة..

لم تكن الغارة الإسرائيلية على منطقة القنيطرة السورية الأولى من نوعها منذ بدء الحرب السورية، كما أنّها لم تكن الأولى التي تستهدف "حزب الله" بالتحديد، ذلك أنّ إسرائيل سبق لها أن استهدفت قاعدة صواريخ للحزب على حدود سوريا.

ومع ذلك، فإنّ الغارة الجديدة هي من دون شكّ، وبإجماع المحلّلين والمراقبين، الأكثر خطورة على الإطلاق، سواء من حيث المعاني أو الدلالات، أو من حيث التداعيات المحتملة، والتي يفسّرها مسارعة الجانب الإسرائيلي لرفع حالة التأهّب إلى مستوياتها القصوى.

وإذا كانت خطورة الغارة تكمن في طبيعة الاستهداف الذي طال قادة ومجاهدين من الطراز الأول في الحزب، بينهم جهاد مغنية نجل المسؤول العسكري الذي سبق لإسرائيل أن اغتالته في دمشق أيضًا عماد مغنية، فإنّ دلالاتها لا تقف هنا، ذلك أنّ الاستهداف حصل في "العمق" السوري وليس على "الحدود"، وتحديدا في بلدة القنيطرة، التي تقع في هضبة الجولان جنوب غربي سوريا.

هدايا إسرائيل لـ"الثوار"؟

يقود الحديث عن الدلالات إلى "التعمّق" أكثر في واقع مدينة القنيطرة، في ظلّ الحرب الدموية السورية. ولعلّه وحده كافٍ للإشارة إلى "التورّط" الإسرائيلي الذي لم يكن خافيًا يومًا على أحد، بدليل أنّ سيطرة "​جبهة النصرة​" على الجانب السوري من معبر القنيطرة على الحدود مع إسرائيل كانت بمثابة "هديّة" بادرت إسرائيل لتقديمها لـ"الثوار"، مجانًا ومن دون مقابل، تمامًا كما كانت الغارة الجديدة "خدمة مجانية" منها للجبهة، التي سبق أن حصلت من إسرائيل على "هدايا" بالجملة اتخذت شكل الدعم اللوجستي تارة والعسكري تارة أخرى، من دون أن ننسى ما يُقال عن قيام إسرائيل بـ"إسعاف" جرحى المعارضة السورية باستمرار، بدافع "إنساني بحت" كما لا يتردّد البعض في القول.

وللدلالة على ذلك، يدعو المراقبون لاستذكار "واقعة" سيطرة "النصرة" على المعبر المتاخم للحدود، والتي مهّد لها الإسرائيليون أنفسهم، حين قصفت المدفعية الإسرائيلية أكثر من 8 مواقع للجيش السوري في مجدوليا ومدينة القنيطرة وخان أرنبة ومحيط المعبر، من مرابضها في "تل الفرس" و"تل أبو الندى" في أراضي الجولان المحتل، الأمر الذي سهّل على المسلحين التقدّم والسيطرة على المعبر، أي أنّ إسرائيل، بمعنى آخر، سلمت المعبر للمسلحين عن سابق تصوّر وتصميم وكجزء من الحرب النفسية التي تمارسها.

ما الذي تغيّر؟

ممّا لا شكّ به إذًا أنّ التورط الإسرائيلي في الحرب السورية، خصوصًا على جبهة الجولان، ليس بجديد، وهو قد تأكّد من خلال تقارير الأمم المتحدة الرسمية، ومن التسريبات الإعلامية، الإسرائيلية قبل غيرها، كما تقول أوساط مطلعة، حيث تلفت إلى أنّ هذا الانغماس لم يقف عند حدّ قصف المواقع السورية، بل وصل إلى مدّ المسلحين لوجستيًّا بالذخائر والأعتدة ولوازم العلاج، والشواهد على ذلك لا تُعَدّ ولا تُحصى.

لكنّ هذه الأوساط تتساءل في الوقت عينه عمّا تغيّر اليوم، حتى وجد الجيش الإسرائيلي نفسه مضطرًا إلى التدخل بشكل فاضح وكشف دوره في الحرب السورية بكلّ صراحة، بعد أن كان يوكل إلى الجماعات المسلحة هذه المهمة من أجل تحقيق بعض الأهداف الإستراتيجية، المتضمنة أولاً ضرب بعض مواقع الجيش السوري التي من الممكن أن تشكل خطراً في أي مواجهة فعلية.

"جيش لحد سوري"!

وفيما تتحفّظ مصادر مقرّبة من "حزب الله" على أيّ تعليقٍ في الوقت الحاضر، باعتبار أنّ الدماء لم تجفّ بعد، وأنّ الوقت ليس وقت كلام، وأنّ الإسرائيلي، الذي يعلم علم اليقين أنّ المقاومة لم ولن تكرّس معادلة السكوت على دماء شهدائها، يجب أن يبقى متأهّبًا ومستعدًا لأنّ الردّ قد يأتيه في أيّ لحظة ومن أيّ مكان، فإنّ مصادر متابعة تشير إلى أنّ ردّ "حزب الله" على هذه العملية لن يكون رداً عادياً، لكنها تعرب عن اعتقادها بأنه لن يصل إلى مواجهة شاملة، ملمّحة إلى إمكانية أن يكون من خلال السعي إلى تبديل موازين القوى في محافظة القنطيرة السورية، عبر السعي إلى القضاء على المجموعات المسلحة هناك أو إضعافها على أقلّ تقدير، وهي التي كانت تراهن إسرائيل على أن تكون "جيش لحد سوري".

في مطلق الأحوال، تشير هذه المصادر إلى أنّ الغارة الإسرائيلية، رغم كونها "اختراقاً خطيرًا" و"ضربة موجعة"، عزّزت المنطق الذي اعتمده "حزب الله" منذ اليوم الأول لمشاركته في القتال السوري، فهي أثبتت أنّ الحزب يقاتل "عدوه الأوحد"، أي إسرائيل، على الأراضي السورية، سواء كان ذلك يتمّ بشكل مباشر أو بالواسطة، بمعنى أنّ الحزب لم يعد مطالَبًا، وفق هذه المصادر، بتبرير مشاركته، بعدما أصبح السعي الإسرائيلي للقضاء على محور المقاومة من البوابة السورية ظاهراً وواضحًا لا يحتمل اللبس، بل إنّ التنسيق والتعاون بين إسرائيل وما يُسمّى بـ"المعارضة السورية" بات مثبتًا وموثقًا.

جبهات موحّدة وأكثر!

الضربة موجعة، لا شكّ، ولكنّها تحمل بين سطورها دلالات ومعانٍ قادرة على تغيير قواعد الاشتباك واللعبة بمجملها، وقادرة على أن تكون نقطة تحوّل في الصراع مع إسرائيل.

من هنا، يقول قائل إنّ إسرائيل لم تفضح نفسها وعلاقاتها فحسب من خلال عمليتها الدموية، بل إنّها وحّدت جبهات القتال بشكلٍ باتت معه كلّ الاحتمالات واردة ومشروعة، أياً كانت..