لا يسوغ إسقاط عمليّة ​القنيطرة​ ومناقشتها بالسياق اللبنانيّ المغلق خارج فهم عميق للأسباب الموجبة التي حدت بالحزب ليكون فوق هاتيك الربى، وفي المقابل للأسباب التي دفعت بإسرائيل لتقوم بهذا الاعتداء الواضح على "حزب الله" واغتيال ضابط إيرانيّ وأهم عناصر للحزب، كانت تجوب وتستكشف وتستنبط ما يحاك وما يربط بالعمق الجيو-سياسيّ، والجيو-استراتيجيّ.

وقد تمّت الإشارة إلى أنّ الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ هو المستهدف، كما أن الرئيس الأميركيّ باراك أوباما بدوره هو المستهدف بصورة جليّة بسبب هذا الاتفاق عينًا، وبسبب مواقفه من الرؤية الإسرائيليّة المتشددة تجاه عدم قيام دولة فلسطينية مستقلّة، وجاء هذا الاعتداء المباشر على "حزب الله" وضابط إيراني كبير استكمالا لانتصار الجمهوريين في الكونغرس وسقوط أوباما ومعه الديمقراطيون.

يجدر فهم هذا السبب كعنصر جوهريّ في الصراع أدّى إلى هذا الانفجار. يستبان الهدف من محاولة تبرير الإسرائيليين العمليّة بعدم معرفتهم بأنها ستقضي على ضابط إيراني وكادرات لها حيثيتها الهامة في الحزب. قد يظهر التبرير جانب الخوف عندهم استنادًا لحقائق إيديولوجيّة وسياسيّة ولاهوتيّة عديدة قائمة في البنية اليهوديّة، وأهمها مساحة الخوف من الموت. ليس الهدف هنا الغوص في عمق المساحة وهي متروكة للتأمّل. ولكنّ الهدف التواصل مع جانب سياسيّ دقيق تجلّى في محاولة تبرير الإسرائيليين للاعتداء وهو لم يعلن وبقي مضمرًا، وفيه أنّ الأميركيين المعتبرين عموديًّا وأفقيًّا حلفاء استراتيجيين، هم المستهدفون وبالتحديد أوباما.

ما يرى سوريًّا وما يرى لبنانيًّا، متحرّر من قوالب التبرير أو عدمه، المصنوعة من بعض السياسيين في هذا المعسكر أو ذاك بهشاشة معطوبة ومفرطة، والمتفلّتة من عقلانيّة وجيهة تستنبط الرؤى خلوًّا من الاصطفاف. الأمر الجوهريّ المستفزّ بشراسة، ذلك التماهي العميق واللامحدود، بين الإسرائيليين والإسلامويين المتمثلّين بقوّة بتنظيم داعش وجبهة النصرة. فقد قرأت إسرائيل أن إطباق الجيش السوريّ وحزب الله على هؤلاء على امتداد الأراضي الممتدة من طريق دمشق حمص طرطوس والبقاع الشمالي وطرابلس، والمؤهّل أن يتوسّع باتجاه درعا، لهو خطر استراتيجيّ على أمن إسرائيل، وعلى جبل الشيخ صلة الوصل بين سوريا ولبنان وإسرائيل بموقعه السوبر-استراتيجيّ، وهو امتداد بدوره للجولان. إن تلك السيطرة التي تمّت في كل المعارك من بعض ريف دمشق إلى القلمون وقلعة الحصن، من خلال الجيش السوريّ وطرابلس من خلال الجيش اللبنانيّ مباشرة، والذي يحاول السيطرة على عرسال، سمحت بانسياب نسيم التوازن في اندراج المكونات المسيحيّة-الإسلاميّة في ذلك المدى. وكشف تهجير المسيحيين والأزيديين في الموصل وجبال سنجار وصولاً إلى إقليم كردستان، بأنّ تلك التنظيمات خطيرة ليست على المثلّث السوريّ-اللبناني-العراقيّ، بل على الأمن العالميّ، والخطورة ظهرت بالتبني الإسرائيليّ المباشر المتجسّد بالاحتضان الميداني في الجولان، والسياسيّ في الحرب على سوريا والعراق ولبنان بالأحداث الأخيرة.

لقد تعمّد الإسرائيليون الإيغال في زرع الخلل حين فتحوا الطريق أمام جبهة النصرة لتهديد المكوّن الدرزيّ في الخط الواصل بين قرى جبل الشيخ البقاع الغربيّ، وهو تعمّد مدروس لإحراج مواقع عديدة كالنائب وليد جنبلاط، فيلعب دروز إسرائيل دور المنجد لدروز لبنان، مثلما حصل في بريتال في البقاع الشمالي، لما حاولت جبهة النصرة بدورها مهاجمة حزب الله، مع اختلاف الخصوصيات التي تمثلها بريتال أو تمثلها منطقة البقاع الغربيّ وهي امتداد لجبل الشيخ وجبل العرب والجولان. رغم ان جود الحزب في القنيطرة، ليس بديهيًّا أو عرضيًّا.

من هذه الزاوية، لا يقيّم الوجود في القنيطرة أو سوريا، من وجهة نظر معارضة أو موافقة ومشجعة، بل بقراءة معمّقة لما يمثّله الإرهاب التكفيريّ من خطورة على معظم المكونات المشرقيّة من العراق إلى لبنان، وعلى الدول التي حضنته في أساس الحرب على سوريا والعراق كفرنسا وبريطانيا والولايات الأميركيّة المتحدة. ليس المسلم ولا المسيحيّ بمنأى عنه، ليس الشيعي ولا السنيّ ولا الدرزي ولا العلويّ بمنأى عنه. هذا إرهاب تسربل في محطّات معينة اللباس المذهبيّ بالمقياس الإسرائيليّ، لينتزع من المسلمين الحضور الليبراليّ الرصين، والبهاء القرآنيّ المضيء، ويقذفهم في حروفيته الجامدة بل في ثقافة الحروف المغلقة، وهم منها برّاء. وينطق في الوقت عينه بعبارات تنعت المسيحيين تارة بالصليبيين وتارة أخرى بالكفار وتبيح ذبحهم وسلخهم عن جذورهم وتدمير أديرتهم وكنائسهم. هذا إرهاب تكفيريّ ينفّذ الأجندة الإسرائيليّة منذ عام 1955 وصولاً إلى الترجمة الحديثة لها مع كتاب هانتنغتون الشهير.

إنّ عملية القنيطرة تصبّ في الاتجاه المعاكس، أي في اتجاه الإبقاء على الورقة التكفيريّة، وبها يهدّد الإسرائيليون وجود المنطقة بتكوينها واقتصادها ونفطها بواسطة تلك الحروب المتنقلة. يكفي أن يقف المرء متأمّلا أمام مقالة لغاي بيتشر في جريدة يديعوت أحرونوت الإسرائيليّة بعنوان: "إنتهى عصر النفط العربيّ... وبدأ عصر العقل الإسرائيليّ"، ليكتشف أنّ تلك الأوراق من ثمار هذا العقل بالذات. ويقول الكاتب المذكور ما يلي: "... فقد فشلت 22 دولة عربية في جهودها الضخمة الأسبوع الماضي لتمرير قرار مناهض لإسرائيل في مجلس الأمن الدوليّ". تلك عبارات دقيقة يجب تلقفها في هذا المقال، وهي تشي بالعقم السياسيّ الذي بلغه معظم من تورطوا في الحرب السوريّة والقضيّة الفلسطينيّة ومأساة لبنان. هل ستبقى إدارة أوباما راسخة على إبقاء الاتفاق الإيرانيّ-الأميركيّ ورقة أساسيّة لخرق هذا العقل بعمقه السياسيّ-الاستراتيجيّ؟ إن العمليّة الإسرائيليّة في القنيطرة تحاول تقطيع الأوصال كلّها، فلا بدّ وكما قال سفير سابق من مواجهة هذه الرؤية من ثلاث زوايا:

1-إن "حزب الله" لا يواجه إسرائيل من بوابة الجنوب كما دأب على ذلك لحقبات طويلة، بل يواجهها في سوريا، فلا يمكن لهذه الورقة من أن تتمدّد لأنّ تمدّدها إلى العمق اللبنانيّ يحقق زوال لبنان. الورقة التكفيريّة خطر على المكونات اللبنانيّة، واقترابها من لبنان وتحديدًا من بوابة عرسال أو بعض المواقع الأخرى ومخيم عين الحلوة، يشي بتلك الخطورة التي لا بدّ من مواجهتها سياسيًّا وأمنيًّا بواسطة الجيش والقوى الأمنيّة.

2-جعل هذه الرؤية منطلقًا استراتيجيًّا لاستكمال الحوار الداخليّ حتى لا يتزعزع الاستقرار بشقيه المذهبيّ والبنيويّ. إن الحوار هو الوسيلة السياسيّة الوجوديّة، لكي لا يخيّم الكلام التكفيريّ، ويعمد على استلحاق لبنان بساحات الصراع، والأهم في هذه الظروف انتخاب رئيس للجمهوريّة يحقق التوازن مع الطوائف المكونة للبنان. التوازن رحم الاستقرار المطلوب في هذه الظروف الدقيقة والمعقدة للغاية.

3-ضرورة تقوية الجيش اللبنانيّ بتسليحه، ليبقى الجيش الأمل بديمومة لبنان وسلامه واستقرار أمنه. إذ لا خلاص للبنان بلا جيش قويّ ثابت في مواجهته لتلك القوى المرعبة.

تغيّر المشهد على المستوى العالمي من احتضان الإرهاب إلى الحرب عليه، والمكونات اللبنانيّة مدعوّة للتضامن في سبيل القضاء عليه.