بالفرنسية قالت لي إبنتي Raya وقد جابت عواصم كثيرة في عملها في إدارة الأموال والثروات، وقصدها أن تخفّف من كربتي في محن العروبة والإسلام ولبنان وثورات العرب ولعب العقل الغربي:

"لبنان ليس وطناً بالمعنى الذي ما زلتم تبحثون عنه. إنّه وطن مشتّت يرعى أبناءه في حقول العالم لكنهم لن يكونوا قطيعاً... تجدهم أصحاب طاقات مالية وتنموية هائلة في أوطان العالم كلّه تتجاوز كلّ ما تنتظرونه في لبنان.هناك لبنانيون ناجحون فاعلون أقوياء مؤثّرون جذّابون لدول الأرض وشعوبها وهم في مراكز القرار الكبرى يتجاوزون سياسيينا في لبنان. لا تخف على لبنان ولا تتعبوا أنفسكم ستبقون جماعات غير متجانسة العقل والمزاج والثقافة مشدودي الوتر ولا يغريهم سوى المال والمظهر والكلام الكثير حيث تتكرر الأزمنة والنصوص والأجيال. اللبناني في العالم شيء وفي لبنان شيء آخر..." وهي قد تكون على حق مع أنّها، للأسف، ليست مشغوفة بتاريخ لبنان ولا بتاريخ العرب والمسلمين.

تتكرّر الأزمنة والنصوص ولم يفهم ولن يفهم الغربيون، كما يبدو، لا العرب ولا الإسلام ولا المسلمين. ليس لأنّ المسألة مستعصية على الفهم، بل لأنّ العين العالمية مصرّة على أن تنظر الى الإثنين بالعين التي تريد أن تكسر وتزجر وتتعالى وتتفوّق وتجعل هؤلاء في حالة إنصياع دائم لمقتضيات التطوير والتغيير وفق أنساق العقل الغربي وتجاربه التاريخية الثورية. لذا يبدو الفهم العقلاني بعيداً لمصلحة المقاربات المتكرّرة الغربية التي تستغرق في التلذّذ بالتشظيات العربية والإسلامية والمذهبية وهي غالباً ما ترتدّ على الغرب في ما يمكن إدراجه بردود الفعل العنيفة وإدارة الظهر للغرب والتشبّث أكثر فأكثر بالتراث والماضي بقصد الحرية والخصوصيات.

ليس أرخص من أن يلجأ هذا العقل الديكارتي الغربي من إلتماس السلوك الكيدي. أنت ترسم لي نبيّ وتنتهك مقدّساتي وتحقّر لي أنساق قيمي لأنك تريد أن تصهرني بمصهرك الغربي، فيلجأ جاهل ما الى القتل والإلغاء المرفوض، فتستمر في الإستفزاز بأن تعيد الرسم بأبشع منه. وكأننا في لعبة النكايات كما يتصرّف الصبية الصغار في ملاعب المدارس. القصّة أعمق من ذلك بكثير:

أوّلاً، للنصوص في بلادنا سلطات ورهبة خاصّة في الذهن العربي. هي مقدّسة ولا تنفتح إلاّ على السماء أو في لا وعينا بحثاً عمّن يكشف الأسرار أو يمدّ حبره وعنقه تحت حدّ السيف. هي قائمة محفورة في الذاكرات المتتالية أبداً والسبب أنّ رحمها الأوّل هو الذاكرة التي لا تلحن ولا تجفّ. كلّ النصوص الأبدية خرجت من الشفاهية أو الشفاه اللامتناهية لترقد في رحم ذاكرة الخالق. أحياناً كثيرة يتخطّى اللسان أو السلوك مقام الذاكرة، وأحياناً يتراجع السلوك ويكرّر اللسان ما في الذاكرة التي تبقى صورة طبق الأصل عن النص المثال، وهنا تقتحم الذاكرة عقل العالم لتقويمه عبر تقويم سلوك ساكنيه وتجليسهما وفقاً لمقتضيات المثال. هكذا تسقط معظم الإعتبارات والخصوصيات والبصمات لكلّ مخلوق إذ لا تفريق بين ذاكرة وأخرى، وهذه ظاهرة توحيدية فريدة تجرف في طريقها معظم الأفكار حتّى النسبيّة المظلّة التي فلشها آنشتاين فوق رأس المعرفة حفاظاً على التنوّع. والتنوّع كسلطةٍ في الغرب يأخذنا الى تفكيك أعضاء الجسد الإنساني وخلاياه الى بصمات ودمغات خاصّة لا تنتهي يتملّك الغرب فيها كل مخلوق على وجه الأرض حاضراً ومستقبلاً وحتّى تحت التراب. أنظروا كيف تعرّى شعوبنا في أروقة المطارات؟

كتب الروائي البرازيلي باولو كويلو أنّ عاقل العقلاء كان قد أسدى بالنصيحة التي ترى بأنّ سرّ السعادة البشرية قائمة في التأمّل بعجائب هذا العالم من حولنا من دون التفريق بين واحدٍ وآخر، ومن دون أن ننسى نقطتين من الزيت في قعر الملعقة التي نحملها، وأضيف الى النقطتين، كما إرتسما في خيالي، نقطة زيت ثالثة تزحلقت بهما السماء على الأرض، بهدف تليين مسألتي العقل والنطق والإبداع والتواصل بين الشعوب والحضارات لدى عند شاغليها من البشر وتقريبهم كي يحسنوا الخروج من أثواب الكائنات المفترسة الأخرى التي قد يحنّون إليها أو هي تذكّرهم بحجرة جدّهم قايين دفاعاً عن الكائن الأعلى والأرقى والأوحد حتّى آخر الأزمنة.

للنص سلطات لا سلطة واحدة في بلادنا ، حتّى ولو أفرغ أو أخرج هذا النص عن محتواه الإنساني في اللحظات الحرجة. وكتابة العرب تطمح الى زرقة الفوق لأنّها كانت النقطة الختامية في قاموس الديانات وتقريب البشر من خالقهم. ولنتذكّر أنّه عندما دار دولاب مطبعة "غوتنبرغيّة" صغير في إسطمبول عاصمة الحكم الإسلامي الشديد الإتّساع خلال 4 آلاف سنة، إهتزّت مفاصل المسلمين خوفاً على الحرف أو النقطة الثالثة التي رسمتها أو سكبتها يد الغيب في الأذهان، إذ يجوز فيه النسخ ولا يجوز الطبع ولا الطباعة التي تذكّر بنابليون بونابرت حاملها وناقلها الينا من البوابة المصرية. فلا نعجب إن نحن تمكنّا من قطع رأس كاتب عربي أو جززنا لسانه أو صلبناه أو غمرناه بالمياه خنقاً من دون أن نتمكّن من إسقاط همزةٍ في نصّه. ما الهدف من رسم تاريخه ومقدّساته بالخطوط المضحكة والمثيرة للهزء والسخرية؟ ولا نعجب أيضاً إن دارت حروب أورثت قتلى ومذابح ومآسي وتهجير ومدافن جماعية عند مناقشة حتّى نصوص دساتير العرب أو نصوصهم، وأعظم ما فيها أنّها ليست كلّها من جريان أقلامنا وصنعنا لا في لبنان ولا في العراق أو الكثير من بلداننا. قد لا يفهم العقل الغربي المسألة في بلادٍ عربيّة ترتدي نصّ الإسلام، ولكنّه قد يفهمها في بلدٍ مثل لبنان في دستوره الذي ترجم عن الفرنسيّة مثلاً في العام 1926 ولبس هندامه الإستقلالي في ال1943 مفصّلاً على جسد ديمقراطية مستوردة تتداول فيه السلطات بالإسم، لكنّه متعدّد القراءات والنتؤآت ومثير للحروب والنزاعات. المسلمون ليسوا مثل بلاد المسيحيين يملأون العالم بأنّ دساتيرهم ونصوصهم غير منزلة بل هي من صنع العبقريات الحقوقية ينظرون إليها كما ينظرون الى صناعاتهم الوطنية الباحثة عن الأسواق ورشّ الأفكار الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة والحقوق قابلة للتصدير والبيع. وكأنّ الحضارة أحياناً قضايا تجارية وتبادلية بين الغرب والشرق.، لقد ولّى هذا الزمن، وهو لن يستقيم كما يبدو لأنّ العقل الغربي مقيم، بالمعنى السياسي، في العهد القديم، وهو ملفوف ولم يتخلّص من إرث"اليهود" وفلسطين والبلاد التي تستنزف وترتجف منذ أيام التوابل والبخور حتّى إمتصاص آخر قطرةٍ من المخزون الأسود الذهبي. لقد ولّد تراكم المآسي وتكرارها لدى الكثير من أبناء الشرق العربي ميلاً لتجاوز كلّ زمانٍ ومكانٍ في العالم لأن يحوّلونه الى خربة مشتّتة في أرجاء الأرض وهم لن ينصاعوا للرغبة الغربيّة في البحث عن نصّ غربي بديل عادلٍ مسدل ببعض الفواصل الشقراء.

تلك ملاحظة عابرة جديرة بالإهتمام حول مفهوم الدولة اللبنانية في حقول العولمة تدعونا لأن نلتفت أو نفكّر بأجيالنا الآتية، وتجعلنا نستنتج بأنّ ما ينطبق على لبنان لا ولن ينطبق على الدول العربية والإسلامية ولو طقّت شرايين العقول في بلاد الغرب التي لم تتخلّص بعد من إرث يبعدها عن العدالة والمساواة والحقوق وفهم الآخرين.