على الرغم من كل ما يحكى عن قوة الكيان ال​اسرائيل​ي المحتل لارض فلسطين واجزاء من الاراضي اللبنانية والسورية، ان كان للناحية العسكرية حيث يحوز على احدث الاسلحة الأميركية المتطورة، أو لناحية القوة الاقتصادية من خلال بناء اقتصاد حديث بالاستناد الى دعم الولايات المتحدة والدول الغربية انطلاقا من كونه قاعدة متقدمة لهذه الدول في قلب المنطقة العربية الحيوية بالنسبة لمصالحها،

وعلى الرغم من استفادة قادة هذا الكيان من الظروف العربية القائمة والتي تصب في صالح مشروعهم الاستراتيجي لتفتيت وتمزيق الدول العربية الى كيانات طائفية وعرقية لتبرير الاعلان عن اسرائيل دولة يهودية، وبالتالي ايجاد المبررات لطرد العرب الفلسطينيين منها باعتبارهم غرباء لا حق لهم في ارضهم التي سلبت منهم، وعلى الرغم من الجهود الاسرائيلية لتوظيف العمليات الارهابية التي تحصل هذه الايام في الدول الأوروبية لدفع اليهود في هذه الدول للهجرة الى فلسطين لمواجهة الخلل الديمغرافي بفعل التزايد المستمر للمواطنين الفلسطينيين المقدر ان يفوق عددهم في عام 2020 عدد اليهود في فلسطين المحتلة، وهو ما يشكل هاجسا دائما للقادة الصهاينة.

على الرغم من كل ذلك فان اسرائيل تبدو في مأزق كبير وأزمة غير مسبوقة تجعل قادتها في وضع قلق على مستقبل المشروع الصهيوني، واستطرادا على وجود كيانهم، ويعود ذلك الى العوامل التالية:

العامل الأول: فشل إسرائيل في كسر إرادة الشعب الفلسطيني وفي دفعه الى الهجرة مجددا عن ارضه أو في إخضاعه وفرض الاستسلام عليه، رغم أنه يفتقد هذه الايام للاحتضان العربي والاسلامي، ويعاني من الانقسام والصراعات الداخلية بين قواه الاساسية.

وتجلى هذا الفشل أخيرا في الضفة الغربية والقدس المحتلتين والاراضي المحتلة عام 48 حيث انتفض الشعب الفلسطيني في مواجهة الهجمة الصهيونية المتمادية لتهويد القدس والمقدسات ومحاولة اقتلاع المقدسيين من المدينة، وابتدع اساليب جديدة في المقاومة الشعبية عبر عمليات الطعن والدهس الأمر الذي هز أمن الكيان، وهذه المقاومة الشعبية، بعد الانتصار الأخير للمقاومة في قطاع غزة على العدوان الصهيوني، مرشحة للتصاعد في الفترة المقبلة أمام انسداد افق التسوية، وازدياد القمع الصهيوني وشراسة العدوان الاستيطاني التهويدي على الأرض الفلسطينية.

العامل الثاني: التبدل الحاصل في البيئة الدولية التي احتضنت المشروع الصهيوني ووفرت كل الدعم لقيام واستمرار إسرائيل ومدها بأسباب القوة على مدى العقود الماضية، وتجسد هذا التبدل:

1ـ في الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة واعترافات العديد من البرلمانات الاوروبية بهذه الدولة رغم الحهود الدبلوماسية الاسرائيلية للحيلولة دون ذلك.

2ـ قبول طلب فلسطين الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية وما يعنيه ذلك من تقييد يد القادة الصهاينة الذين سيصبحون ملاحقين بتهمة ارتكابهم جرائم حرب، حتى ولو لم يمثلوا امام المجكمة الدولية فان وضع إسرائيل الدولي سيزداد سوءا نتيجة لذلك، وستصبح الدول الداعمة لها في هذه الحالة في موقف حرج وصعب، تماما كما حصل ايام نطام التمييز العنصري في جنوب افريقيا حيث اضطروا الى التخلي عن دعمه. 3ـ قلق القيادات الاسرائيلية من الأزمة الحاصلة في العلاقة الاسرائيلية ـ الأميركية حول كيفية مقاربة ملف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني والملف النووي الايراني، وتعكس هذه الأزمة عدم قدرة إسرائيل على التناغم والتكيف مع السياسة الأميركية البراغماتية وتكتيكاتها التي تفرض المرونة والتراجع في بعض الأحيان للحيلولة دون تعرض المشروع الأميركي ـ الصهيوني في المنطقة لانتكاسة كبيرة، خصوصا مع إدراك الولايات المتحدة للتحولات الحاصلة على الحلبة الدولية والتي تعكس انتهاء عصر الهيمنة الأحادية الأميركية على القرار الدولي، وبداية مرحلة جديدة من التوازن الدولي المقترن بانتقال مركز الثقل في الاقتصاد العالمي من الغرب الى الشرق، في ظل تفاقم حدة الأزمات الاقتصادية والمالية وتداعياتها الاجتماعية في الولايات المتحدة والدول الغربية مما ينعكس سلبا على حجم دعمها لـإسرائيل.

فاسرائيل لا تريد التراجع قيد انملة عن مواصلة مخططها لتصفية القضية الفلسطينية ورفض اقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تكون القدس الشرقية عاصمتها، وفي نفس الوقت هي غير قادرة على ايجاد بديل عن الدعم الأميركي الغربي يوفر الحماية والرعاية لها ويمكنها من مواصلة تنفيذ مشروعها, فالصين المتجهة الى احتلال المرتبة الأولى اقتصاديا على الصعيد العالمي، وروسيا التي استعادت حضورها كقوة عالمية عظمى، لا يمكن أن تكونا بديلاً مستقبليا تأخدا مكان اميركا وأوروبا في رعاية ودعم المشروع الصهيوني في المنطقة، والسبب انهما لا تريدان ولا تطمحان للعب دور استعماري. بل تسعيان الى تعددية دولية تقوم على تقرير مصيرها.

العامل الثالث: دخول اسرائيل في مرحلة من الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعيىة التي تجعلها في وضع داخلي جديد غير مسبوق وغير قادرة فيه على الاحتفاظ بمستوى معيشي جيد، ولا على مواصلة الانفاق العسكري بنفس المستوى الذي كانت عليه في السابق، ولهذا تشهد مرحلة جديدة من شد الاحزمة وعصر النفقات العسكرية وتقليص الموازنات الاجتماعية والخدماتية في وقت تحدثت التقارير مؤحراً عن تزايد نسبة الفقر في إسرائيل. ومثل هذه الازمة سيكون لها تأثيرها على تماسك الكيان حيث سيطفو الصراع الاجتماعي ويتفاقم التمييز بين مكوناته لا سيما بين الاشكيناز والسفرديم، في حين أن القدرة على شن الحروب لتنفيس هذه الازمة كما كان يحصل في السابق، بات محل شك بسبب عدم توافر العناصر الضرورية لذلك، وفي مقدمها التأييد الأميركي لشن الحرب وتغطية نفقاتها، وضمان تحقيق النصر في الحرب، لا سيما وأن اسرائيل عجزت عن تحقيق النصر على المقاومة في قطاع غزة، رغم كل أن كل الظروف تعمل لصالحها، فكيف بها تستطيع بلوغ ذلك اذا جرت حرب واسعة.

وهذا الواقع الجديد، الذي لم تعتاد عليه إسرائيل في السابق، يعمق الصراع السياسي الداخلي ويجعلها في حالة من عدم الاستقرار السياسي، وهو ما يجري التعبير عنه في المعركة الانتخابات المبكرة والانقسامات داخل الاحزاب الرئيسية، والتي تؤشر الى ان أنها ستنتج كنيسيت أكثر انقساما وتشرذما يفاقم من الأزمة السياسية وعدم الاستقرار السياسي وصعوبة اتخاذ القرارات.

ورئيس وزراء العدو بنيامين نتانياهو يعاني هذه الايام من تراجع كبير في شعبيته، حيث أكد 58 في المائة أنهم لا يريدون نتانياهو رئيسا للحكومة المقبلة، في حين أن حزبه (الليكود) بات ينزف نتيجة التصدع والتسرب منه باتجاه الاحزاب اليمينية الاخرى، في حين شهد انشقاقا بخروج اليميني المتطرف موشي يغلين مع مناصريه وانضمام بعضهم الى البيت اليهودي، فيما ادى اتجاه نتانياهو الى اليمين المتطرف الى اثارة حفيظة اليمين المعتدل في الليكود مما دفع الكثيرين من هذا التيار الى الالتحاق بحزب «كلنا» برئاسة موشي كحلون الذي انشق هو الأخر في وقت سابق عن الليكود، أما وضع الاحزاب الاسرائيلية الاخرى فهو ليس افضل حالاً من الليكود.

انطلاقا مما تقدم فان اسرائيل تواجه ازمة سياسية مقترنة بأزمة مصيرية ناتجة عن التبدل الحاصل في البيئة الدولية في غير مصلحتها ما يضع المشروع الاسرائيلي امام مأزق كبير هو الأول من نوعه منذ عام 1948.