لا يجوز إطلاقاً لنا كعرب أو كدول في الإقليم، أن ننسى ما حدث من غزو غربيّ ـ خليجي لليبيا، وما يجري فيها الآن، بغضّ النظر عن ممارسات النظام الليبي السابق وسياساته التي لم يرق الكثير منها لأبناء الشعب العربي في ليبيا أو لنا ولأصدقائنا. إن المرارة إزاء تصرّفات النظام الليبي السابق التي شعر بها وعانى من قساوتها أهلٌ لنا في لبنان وسورية ومصر والسودان وتونس… إلخ، لا تعني بأيّ شكل من الأشكال أن ليبيا لم تعد بلداً عربياً، وأنّ الذين يعانون الآن من نتائج الغزو الغربي ـ الخليجي «الديمقراطي والإنساني»، لم يعودوا من أهلنا ومن دمنا ولحمنا. إن انتشار قطعان الإرهابيين في هذا البلد العربي كانتشار النار في الهشيم من كل حدب وصوب، والذين يوجّهون سهامهم السامّة إلى صدور أهلنا في طرابلس الغرب وبنغازي وسرت والواحات الليبية الجنوبية، أمر يثير غضبنا واستنكارنا. كما أنّ ممارسة الحكومة الليبية مهامها من طبرق لا من العاصمة طرابلس، يثير حزننا ويعكس صورة الوضع المأسوي في هذا البلد العربي.

إن البلد الأول الذي عانى من الإرهاب القادم من ليبيا كانت سورية، إذ أبحرت سفن الإرهاب والسلاح، كل أنواع السلاح، إلى سورية من إرهابيي ليبيا «هدية» إلى إرهابيي سورية، سواء كان ذلك عبر لبنان ومهرّبي أسلحة الموت والإرهاب فيه، أو عبر التنظيمات السياسية التي لم تفاجئنا الآن بدعوتها إلى الاعتدال في الإسلام أو غيرها مما هو مدرج على لوائح الإرهاب الدولية. أو عبر تركيا أردوغان التي كانت وما زالت حتى الآن تستقبل «بكل ترحاب» الإرهابيين القادمين من ليبيا أو «سلاح المحبة» الذي يحملونه لقتل أبناء شعبنا السوري. وقد نجح جيش سورية البطل بقتل أعدادٍ من هؤلاء «المجاهدين». أما مصر وتونس والشواطئ الأوروبية، فإنها أيضاً تلقّت الكثير من «هدايا» الإرهاب القادم من ليبيا.

لقد بدأت كارثة ليبيا بالغزو الأميركي والفرنسي والبريطاني والإيطالي والتركي، أي دول حلف الناتو، بدعمٍ مالي ولوجستي وحتى عسكري من السعودية وقطر والإمارات وآخرين. وتذرّعت هذه الدول وغيرها ممّن ارتكب جريمة الغزو، بأعمال كان يقوم بها النظام الليبي السابق لتبرير فعلتها. علماً أن النظام الليبي السابق كان صديقاً للرئيس ساركوزي، وموّل حملته الانتخابية كما أكد الإعلام الفرنسي. وعلى رغم كل ما قام به النظام الليبي السابق من أخطاء طوال وجوده في الحكم من عام 1969 وحتى رحيله في عام 2011، والذي استخدمه أعداء ليبيا لتبرير هذا الغزو، فإن كل مخالفات ذلك النظام طوال أربعين سنة وضحاياه لا يمكن مقارنتها بعشرات الآلاف من الليبيين الذين قتلهم غزاة ليبيا في القرن الحادي والعشرين في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وللقانون الدولي. إن جريمة تغييب النظام الليبي السابق للإمام الصدر ورفاقه لا تغتفر، ومن المؤكد أنها من الجرائم التي لا يمكن نسيانها، والتي لن تزول آثارها بالتقادم.

إنّ الدمار الذي حلّ بهذا البلد العربي يدلّ على همجية الدول الغربية ومن سار في ركابها من دمى عربية ومن مموّلين عرباً. ولا يمكن أن نغفر للجامعة العربية قرارها الذي فتح الباب أمام أميركا وفرنسا وبريطانيا والغربيين الآخرين لتنفيذ سياساتهم التي لا غرض لها إلّا توفير الأمن لـ«إسرائيل» والسيطرة على البترول العربي، والليبي منه أيضاً، وتسخير المنطقة جغرافياً واقتصادياً كأسواق لهم.

ما جرى في ليبيا بعد الغزو، من دمار وتفتيت لهذا البلد، وجعله مرتعاً للإرهابيين، ما هو إلّا «بروفا» لما كان يخطط له هؤلاء الغزاة لباقي الدول العربية، ولا أبالغ إذا قلت إن المخطط نفسه كان سيشمل لاحقاً حتى الدول العربية الأخرى التي شاركت في الغزو وسهّلت القيام به. وإذا أخذنا بالاعتبار أن الدول الغازية تذرّعت بأنها تنفّذ الغزو استجابةً لقرار مجلس الأمن رقم 1973 لعام 2011، إلّا أن أعضاء مجلس الأمن الآخرين مثل روسيا والصين، وهما أعضاء دائمين في مجلس الأمن، وجنوب أفريقيا، أكدوا أمام المجلس أن ذلك القرار لا يتيح المجال نهائياً للدول الغربية للقيام بغزو ليبيا. كما أن الاتحاد الأفريقي، بعكس الجامعة العربية التي استدرجت الغزو وشاركت دول منها فيه، أدان الغزو الأوروبي لليبيا.

لقد أدّى الغزو الغربي لليبيا إلى تحويل هذا البلد العربي إلى ديار أشباح يقتل فيها الأخ أخاه، وتهاجم فيه العشيرة شقيقتها العشيرة الأخرى، ويقتل فيه قائد القطعة العسكرية أخاه من المجموعات العسكرية الأخرى. إن تفتيت ليبيا إلى أجزاء تتحارب في ما بينها على يد مجموعات إرهابية لا همّ لها إلّا السلب والنهب والتلاعب بثروات ليبيا وبيعها النفط لفرنسا وبريطانيا وإيطاليا بأسعار بخسة لتسديد نفقات المجموعات الإرهابية المسلحة، هو «الإنجاز» الوحيد الذي يمكن لدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التغنّي به. كما أنّ ليبيا التي كانت سوق العمل لملايين العمّال المصريين والتونسيين والأفارقة والسوريين، أصبحت في أيامنا هذه، منذ الغزو «الحضاري» الغربي، مكاناً لقطع رؤوس المصريين والأفارقة. والدليل الأكبر على ذلك التظاهرات التي خرجت في مصر من قبل أهالي المختطفين، ضدّ الإرهابيين والمتشدّدين والتكفيريين الليبيين. ولا يمكن للسوريين الذين كانوا يعلمون في ليبيا وعددهم حوالى نصف مليون إنسان، أن ينسوا كيف تحمّلت حكومة الجمهورية العربية السورية، بتوجيه من سيادة الرئيس بشار الأسد، عملية نقلهم من ليبيا إلى سورية على نفقتها الخاصة عبر سفن وطائرات استأجرتها كي تُنقَذ حياة هؤلاء المواطنين السوريين وكثيرين من العرب من الأردن ومن لبنان بشكل خاص، في إطار عمل تاريخيّ غير مسبوق للحفاظ على عائلاتهم وكرامتهم.

هل كان صدفة أنّ الأخوان المسلمين والتكفيريين والمتشدّدين هم الذين كانوا البديل للحكومات العربية التي مرّت على أرضها عاصفة ما يسمّى «الربيع العربي»؟ بالتأكيد لا، وإلّا فإننا نكون مثل أولئك الذين خرّبت عقولهم وحكمتهم، الدعاية الغربية وأدواتها في قطر والسعودية ودول أخرى في المنطقة وخارجها. والسؤال المطروح الآن: هل ثمّة دولة حالياً اسمها ليبيا وتتمتع بالسيادة والاستقلال ووحدة الأرض والشعب؟

أثق بأن الغالبية المطلقة من أبناء الشعب الليبي الشقيق تتطلّع إلى اليوم الذي تستعيد فيه حريتها وسيادتها واستقلالها، إلّا أنّ المصالح الغربية في هذا البلد العربي والمبنية على سياسات نهب ثروات ليبيا النفطية، لن تسمح، على الأقل في المدى القصير وربما المتوسط، بذلك. والأنكى من ذلك، ذلك التنافس السعودي من جهة، والقطري ـ التركي من جهة ثانية، على التهام الكعكة الليبية، إذ تسعى هذه الأطراف إلى حشد كل المرتزقة والإرهابيين داخل ليبيا وخارجها لتنفيذ مؤامرات الأسياد على حساب أرواح الليبيين وثرواتهم ووحدة وطنهم وتاريخ شعبهم، بما في ذلك إرث القائد التاريخي عمر المختار الذي نعتزّ به كما نعتزّ برموزنا الوطنية والقومية.

عندما تصبح ليبيا مصنعاً لتفريخ الإرهاب ومركزاً لشحن سلاح القتل إلى سورية وإلى مصر وتونس والجزائر وإلى باقي أنحاء العالم، فإن مهمتنا تصبح وقف هذا الخطر الداهم. وعلى الدول التي تتلاعب بمصير الليبيين وتستخدمهم بيادق لقتل السوريين، خصوصاً فرنسا والولايات المتحدة، فيجب ألّا نسكت. وإذا كنّا نتابع بعض الجهود التي تُبذل إقليمياً ودولياً لوقف مأساة ليبيا والكارثة التي تمر بها، فإننا نعلنها صوتاً عالياً وكلمة مدوية لوقف قتل ليبيا شعباً وأرضاً، ومعاقبة القيادات والدول التي غزت ليبيا واستباحت أرضها وثرواتها وحوّلتها إلى مرتع للإرهابيين. ومن جانب آخر، نؤكد أننا مع ليبيا موحّدة وذات سيادة وعربية، وأننا مع شعبها بكل مكوّناته. كما نقول للجميع الذين تطاولوا على شعب ليبيا وقاموا بغزوها وتدميرها وتفتيت وحدة أرضها وشعبها: ارفعوا أيديكم عن ليبيا!