ليس صحيحاً أنَّ المؤسسات في لبنان هي فقط تلك المثبتة في الدستور وفي القوانين المرعية الإجراء، فإلى جانب مؤسسة رئاسة الجمهورية ومؤسسة مجلس النواب ومؤسسة مجلس الوزراء والمؤسسات العسكرية والأمنية والإقتصادية والإجتماعية، هناك مؤسسة الفساد، وهذه المؤسسة ضاربة جذورها في كلِّ المؤسسات والإدارات وأقوى منها مجتمعة:

قد يصيب الفراغ رئاسة الجمهورية، لكن مؤسسة الفساد لا تعرف الفراغ.

قد يصيب التعطيل مجلس النواب، لكن مؤسسة الفساد لا تعرف التعطيل.

وقد يصيب مجلس الوزراء التردد والعجز والإرتباك، لكن مؤسسة الفساد لا تعرف لا التردد ولا العجز ولا الإرتباك.

اليوم يُطوى الشهر الثامن على الفراغ في رئاسة الجمهورية، تعطَّلت الرئاسة فهل تعطَّل الفساد في موازاتها؟

بالتأكيد لا.

سبع عشرة جلسة عقدها مجلس النواب لإنتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية، ولم يستطِع تحقيق ذلك وبقيت عملية الإنتخاب معطَّلة، فهل تعطّل الفساد في موازاتها؟

مجلس الوزراء ابتكر طريقة مستحيلة في الحكم وهو الإجماع في إتخاذ قراراته، وهكذا تعطَّلت مواد دستورية تتعلَّق به وبطريقة إدارة الحكومة، لكن في الموازاة لم تتعطَّل مؤسسة الفساد.

***

إنه الفساد فوق الجميع وأقوى من الجميع، لا يتعطَّل ولا يتوقَّف سواء كانت هناك رئاسة جمهورية أو لم تكن، وسواء أكان هناك مجلس نواب أم لم يكن، وسواء أكان هناك مجلس وزراء أم لم يكن. الدلائل على هذه الإستنتاجات كثيرة، فالفساد ازداد أكثر فأكثر في هذه الشهور الثمانية من عمر الفراغ، ولو لم يكن هناك وزراء، وليس كل الوزراء، يتصدُّون له، لكان الوضع أسوأ من ذلك بكثير.

***

في شهور الفراغ إستمرَّ الفساد في الدوائر العقارية شغَّالاً، لكن وزير المال علي حسن خليل يقف بالمرصاد أمام كلِّ المحاولات المتكرِّرة، ففي واحدة من المواجهات القائمة مع الفساد طلب من هيئة التشريع والقضايا في وزارة العدل إقامة دعوى كتمان ثمن في شأن عدة عقود بيع جارية على عقارات في مناطق مختلفة من لبنان، وفي عهده في وزارة المالية أقدم على خطوات نادراً ما تجرّأ غيره على القيام بها، حيث استردَّت النيابة العامة المالية مبلغ 10 مليارات ليرة من البيوعات العقارية الحاصلة عام 2014، وذلك لمصلحة خزينة الدولة.

***

فضيحة الفضائح التي يرصدها وزير المال مع غيره من الوزراء المعنيين، هي فضيحة الحوض الرابع في مرفأ بيروت، حيث كل الوقائع تتحدَّث عن تلزيم بالتراضي بلغ نحو 130 مليون دولار، فيما الكلفة المقدَّرة هي 70 مليون دولار، أي تقريباً نصف القيمة. أكثر من ذلك فهناك دفعةٌ أولى دُفِعَت للشركة المتعهِّدة وقد بلغت عشرين مليون دولار، فما هذا السخاء في الدفعة الأولى؟

وهل هي دفعة تراضي كما كان التلزيم بالتراضي؟

لم تقتصر الفضيحة على الكلفة بل تعدتها لتصل إلى الجدوى حيث يتحدَّث العارفون أنَّهم لم يروا أي جدوى إقتصادية في هذا المشروع، فإذا كان الهدف منه إيجاد أمكنة للمستوعبات فإنَّ في المرفأ مساحات واسعة لها ولا حاجة للتوسعة قبل خمسة أعوام على الأقل.

ويتابع العالمون أنَّ الحوض الرابع المستهدف بالردم لا يمكن الإستغناء عنه، لأنَّه يتمتع بمواصفات لا تتوافر إلاّ في المرافئ العالمية في عمقه وموقعه، وليس هناك مرفأ يوازيه في الأهمية إلا مرفأ حيفا الذي يتّسع للبواخر البريطانية والروسية والأميركية العسكرية التي تزوره للتزوّد بالمؤن والمحروقات من فترة لأخرى، فلماذا هذا الإستسهال في الإستغناء عما هو ضروري؟

***

والفضائح في سنة أولى شغور تصل إلى المطار، ولكن هذه المرة من باب السوق الحرة.

في إحدى جلسات مجلس الوزراء في الحكومات السابقة، انبرى وزير الأشغال غازي العريضي ليقول نحن مقبلون على مشكلة بالنسبة إلى عقد السوق الحرة، العريضي كان يشير إلى إنتهاء العقد الذي حُدِّد في أربع سنوات بعدما كان في الإتفاق الأول خمس عشرة سنة، ثم تمَّ إبطاله في مجلس شورى الدولة. هكذا فإنَّ السوق الحرة تُدار الآن من دون أيِّ سندٍ قانونيّ إنطلاقاً من مقولة تسيير المرفق العام، ما يطرح السؤال التالي:

ما الذي يحول دون إطلاق مزايدة جديدة لتسيير السوق الحرة؟

***

إنَّه البلد المسروق والمنهوب وغير المكسور.

استردّوا المسروق فتُخفِّفوا عجز الخزينة.