غياب الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز لم يكن مفاجئاً، وبدا واضحاً أنّ ترتيباً هادئاً جرت حياكتُه بدقّة في الأسابيع لا بل الأشهر الماضية. فالسؤال الذي كان يُقلِق العواصم الغربية ولا سيّما واشنطن هو حول كيفية ضمان انتقال السلطة كمدخل إلزاميّ لتأمين استقرار أكبر منبع للنفط في العالم ومن خلاله تطوير الواقع الداخلي للمملكة والقضاء على البِدَع الدينية المتزَمِّتة، وهو ما كان بدأ به الملك الراحل.

صحيحٌ أنّ إشارة إبقاء وزارة النفط بلا تغيير يعني أنّ القيادة الجديدة ستستمرّ في السياسة النفطية الحاليّة وسط صراع إقليميّ ودولي كبيرَين يشكّل فيه سعر برميل النفط السلاحَ الأبرز، إلّا أنّ الإشارة الأكبر والأهمّ تكمن في التعيين السريع للأمير محمد بن نايف وليّاً لولي العهد.

فإضافةً إلى أنّه يشكّل باكورة تعيينات الجيل الثالث وبالتالي فتحَ الطريق أمام آليّة جديدة لتوارث السلطة، إلّا أنّه الرَجل المعروف بقوّته وبطشِه في محاربة المتطرّفين وتمَيُّزه عن الموقف الرسمي السعودي حيال نظرته للعلاقة مع سوريا. كلّ ذلك يجعل من هذا التعيين علامةً مستقبلية فارقة.

فالأمير محمد بن نايف والذي كان قد نجا من محاولة اغتيال دبَّرَتها له خلايا تنظيم «القاعدة» مؤهّلٌ لأن يصبحَ الحاكم الفعلي وليس فقط الرجل القوي بحُكم موقعِه الجديد. فالملك الجديد يعاني من مشاكل صحّية خطيرة ووليّ العهد يعاني من بعض الأمراض ولو أنّها لا تبدو شديدة الخطورة، ما يجعل الأمير محمد صاحب التأثير القوي.

في السنوات الماضية عُقِدت في واشنطن العديد من المؤتمرات لمتخصّصين حول أحوال السلطة في السعودية وكيفية إيجاد حلول لها، وشاركَت الديبلوماسية الاميركية عن كثب في هذا الإطار. ما يعني أنّ واشنطن التي لا بدّ أنّها شجّعَت على تعيين الأمير محمد، تُحبّذ السياسة التي ينتهجُها: محاربة التنظيمات المتطرّفة من دون هوادة، والتعاطي بواقعية مع الملفات الشائكة قبل الملف السوري.

لذلك لم يكن مفاجئاً أن تشاركَ طهران في واجب تقديم التعزية من خلال وزير خارجيتها. فالقيادة الإيرانية التي تنتظر موعدَ توقيع اتّفاقها مع واشنطن تتحضّر لتدشين مرحلة جديدة في الشرق الأوسط. ويتردّد أنّ وساطة سلطنة عمان والتي راوحَت مكانها أخيراً بين طهران والرياض ستعاود حركتَها قريباً جدّاً في ضوء الرغبة بتسريع التوقيع على الاتّفاق الأميركي - الإيراني بعد الغارة الإسرائيلية في الجولان والإشارات السلبية الصادرة عن تركيا.

لكنّ ذلك لا يعني أنّ الملفّات الخلافية في المنطقة جرى التفاهم عليها بالكامل وفق الملحق السرّي الذي يواكب في العادة اتّفاقات دولية بهذا المستوى، ولا سيّما في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.

ففي العراق لم تُحسَم بعد صورة السلطة المستقبلية والمطالبة السنّية بما يشبه السلطة الذاتية. وفي اليمن صراعٌ عنيف قد يحتاج إلى الكثير من الوقت لإنضاج ظروف الحلّ فيه. وكما يشكّل العراق الخاصرة الرخوة لإيران، يشكّل اليمن الحديقة الخلفية للسعودية. أمّا في سوريا فالوضع أخذ مساراً جديداً ولكنّ الحلّ النهائي ما يزال بعيداً.

ففي العام 2007 وفي عزّ عمل لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كانت قناة التفاوض السرّية مفتوحة ما بين باريس ودمشق تحت الإشراف الأميركي. وبنتيجة هذه المفاوضات جرى الاتفاق على ورقة مشتركة تتضمّن بنوداً في سوريا ولبنان.

ومن أبرز هذه البنود السَماح لمرشد الإخوان المسلمين البيانوني بالعودة إلى سوريا وإطلاق سراح الموقوفين السياسيين المنتمين إلى الإخوان المسلمين، وتشكيل حكومة جديدة تضمّ في صفوفها وجوهاً معروفة بمعارضتها للنظام ولكن وفقَ وتيرةٍ مقبولة، مثل ميشال كيلو، والشروع في عملية تحديث المؤسسات وفتح أبواب الدولة أمام مشاركة جميع الفئات.

ومن النقاط اللبنانية وصول العماد ميشال سليمان إلى قصر بعبدا كضمان لسوريا بألّا يحكمَ لبنان ضدّها، وإجراء انتخابات نيابية يحصل فيها الخاسر على الثلث المعطّل في الحكومة كضمانٍ لعدم التنكيل به، على أن تكون الحكومة برئاسة سعد الحريري.

وجرى وضع كلّ من السعودية ومصر وقطر في أجواء هذا الاتّفاق، إضافةً إلى تركيا حيث يلعب أردوغان دور الراعي الدولي للإخوان المسلمين. ومِن هنا هذا الحضور الرسمي والدولي العريض في جلسة القسَم لسليمان.

وأرفِق ذلك بطلب باريس من دمشق الابتعاد عن إيران على أن يبدأ ذلك في العلاقة مع حزب الله في لبنان. ويوم إجراء الانتخابات النيابية في البقاع اتّصلَ اللواء محمد ناصيف بأحد الديبلوماسيين الفرنسيين في بيروت وأبلغَهم أنّ فريق 14 آذار سيربح المعركة في زحلة.

وهكذا اقترع المجنّسون القادمون من سوريا لصالح تيار المستقبل وخسرَ فريق 8 آذار بقيادة حزب الله الانتخابات. لكنّ واشنطن ومعها باريس لم تلمسا فيما بعد ابتعادَ سوريا عن إيران، لا بل على العكس.

وبدل ذلك طارت حكومة الرئيس الحريري وحلّت مكانها حكومة الرئيس ميقاتي، فيما بقيَت البنود السورية من دون تطبيق. وعندما انفجرَ الصراع في سوريا ذهب اللواء علي مملوك إلى باريس حاملاً معه أوراقاً أمنية تهمّ الأمن الفرنسي في إطار التعاون الأمني بينهما، لكنّ المسؤولين الفرنسيين رفضوا لقاءَه وإكمال التعاون الأمني، لتبدأ قطيعة كاملة بين البلدين، لا بل لتباشِرَ باريس حركتَها ضدّ النظام انطلاقاً من شمال لبنان.

لكنّ الأمور تغيّرَت ونجحَ بشّار الأسد في اجتياز العاصفة، وبدل أن تبتعد سوريا عن إيران، أضحَت طهران صاحبة تأثير كبير في سوريا وأقوى بكثير في لبنان، فيما الغرب بات يخشى سقوط الأسد كي لا تحلّ الفوضى الكاملة في سوريا وتنتقل الفوضى إلى قلب أوروبا.

من هنا أهمّية الاتفاق الأميركي-الإيراني والسعي الفرنسي في طهران من خلال ملفّ الرئاسة اللبنانية، ومن هنا أيضاً السعي لمواكبة السياسة المستقبلية للسعودية مع الدور الذي ينتظر وليّ وليّ العهد الأمير محمد بن نايف.