المواجهات العسكرية المتكرّرة بين الجيش والمسلحين في جرود القلمون، من عرسال إلى رأس بعلبك، تؤكد من جديد، أهمية الهبة السعودية المليارية للجيش اللبناني، وترسم أبعاداً استراتيجية لرؤيا الراحل الكبير الملك عبدالله بن عبدالعزيز، عندما قرّر تقديم هذا الدعم غير المسبوق في تاريخ العلاقات الأخوية بين المملكة ولبنان.

لقد وقفت السعودية دائماً إلى جانب لبنان، منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله، إلى خلفائه من أبنائه الأبرار، حيث كان لكل واحد منهم «إنجاز ما» في العلاقات مع الشقيق الأصغر، لا سيما في عهد الملك فهد الذي سارع إلى إزالة اثار الاجتياح الإسرائيلي الغاشم عن بيروت عام 1982، ثم رعى بجهوده الأخوية الطيبة حوار النواب اللبنانيين في الطائف، والذي توصل، بمباركة سعودية خاصة، إلى إنهاء الحرب البغيضة، ووضع وثيقة الوفاق الوطني الجديدة التي حملت اسم «اتفاق الطائف».

ووقفات الدعم والمساندة من الملك عبدالله كانت أكثر من أن تُعدّ أو تُحصى، وإن كان أبرزها تلك الوقفة الشجاعة لدعم لبنان بمواجهة آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية في حرب تموز 2006، ثم الحرص على إزالة آثار العدوان الهمجي على قرى الجنوب الصامد، وإعادة بناء ما دمرته الغارات الإسرائيلية في البنية التحتية.

وكانت آخر وقفات «أبو متعب» المشهودة، حرصه على توفير الأسلحة والتجهيزات والمعدات الحديثة التي يحتاجها الجيش اللبناني، لتمكينه من التصدّي للجماعات الإرهابية، وحماية الأمن والاستقرار في الداخل.

* * *

ومن خلال مراجعة متأنية لمسار العلاقات الأخوية بين لبنان والمملكة العربية السعودية، يمكن الاستنتاج بأن الروابط العميقة التي تشد الوطن الصغير إلى الشقيقة الكبرى، ستزداد فعالية وحميمية في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز، وذلك على خلفية جملة من الأسباب والمعطيات، بعضها شخصي ومباشر مع خادم الحرمين الشريفين، والبعض الآخر يتعلق بتاريخية هذه العلاقات، ومدى حرص الشعبين الشقيقين عليها.

المتابعون لمسيرة الملك سلمان يُدركون حجم المكانة والمحبة التي يكنها للبلد الذي عرفه في أحلى فتراته الذهبية، في الستينات، ويحمل له أجمل الذكريات.

هذه العلاقة العاطفية والمميزة، كان يشعر بدفئها رجال السياسة والإعلاميين الذين كانت تتاح لهم فرصة اللقاء بـ «أمير الرياض»، ثم ولي العهد، الذي كان يسأل عن التطورات اللبنانية وشخصياتها، وكأنه يعيش تفاصيل أحداثها.

ولبنان ليس بعيداً أيضاً عن اهتمامات ولي العهد السعودي الجديد الأمير مقرن بن عبدالعزيز، الذي أراد أن يبني قصراً في حريصا، ولكن المزايدات الطائفية والسياسية المعهودة في لبنان، دفعته لإعادة الأرض إلى أصحابها.

والأمير مقرن كان كثير التردد إلى لبنان في السنوات الأخيرة، وله صداقات واسعة مع رموز سياسية واقتصادية عديدة، وتابع مؤخراً بعض الملفات اللبنانية الشائكة، وحرص على معالجة بعض جوانبها المعقدة.

* * *

الواقع أن العلاقات الأخوية مع المملكة العربية السعودية، هي بالنسبة لمعظم اللبنانيين بمثابة القدَر الذي لا مفرّ منه، لأن القواسم المشتركة بين الشعبين الشقيقين لا تعد ولا تحصى.

وقد تجلّت أمتن روابط هذه العلاقة في الحفاوة المميزة التي يحيط بها الأخوة السعوديون اللبنانيين المقيمين في المملكة، إلى جانب الرعاية الأبوية التي يسبغها كبار المسؤولين السعوديين على أفراد الجالية اللبنانية، وذلك من دون أي تمييز طائفي، أو سياسي، أو حتى مناطقي.

والتجاوب اللبناني مع تلك الرعاية الملفتة يتجسّد من حرص مختلف أطراف الجالية على إبقاء الخلافات السياسية الفولكلورية خارج التداول في المملكة، وعلى الإقدام على التعاون، ليكون الجميع بمستوى الثقة السعودية الكبيرة للبنانيين المقيمين في المملكة، والذين أثبتوا من الكفاءة والإدارة، والأمانة والإخلاص، ما مكّن العديد منهم من تولي أدق المناصب حساسية.

* * *

صحيح أن لبنان فقد برحيل الملك عبدالله بن عبدالعزيز سنداً ونصيراً كبيراً في الملمات، ولكن لا خوف على العلاقات المميزة مع الشقيقة الكبرى برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير مقرن بن عبدالعزيز، اللذين يحفظان محبة خاصة لوطن الأرز، وأبنائه الناشطين، وهما يحتلان مكانة كبيرة في قلوب اللبنانيين.