يوم قرّر وفدٌ من تيار المستقبل أن يكتشف من باب الفضول مهرجان الجنادرية السعودي، سمع أفراده من هناك وعدًا على ما كان أشبه بهواجس مرتبطة بمرحلة ما بعد الملك عبدالله الراحل. في ذاك الوقت، كان الأخ الشقيق سلمان رجل الميدان الأوّل فهمس في “الأذن” المستقبليّة بعض الطمأنات التي يعوّل عليها أبناء السعودية المدللون اليوم بعدما استوعبوا رحيل “أبيهم” الروحي.

قد يكون مفهوم “السلطة استمراريّة” هو الجواب الكليشيه الأكثر رواجًا وبساطةً عندما تقارَب فرضيّة ارتباط تبدّل الحُكم في السعودية بتبدّل سياستها الخارجيّة تجاه لبنان، بما قد يخلط الأوراق ويقلب المعادلات. فهل يكمل الملك سلمان ما بدأه سلفه الراحل تُجاه لبنان؟ أم يضع حدًا لما ينظر اليه بعضهم على أنه “غُنجٌ مفرطٌ” للبنان ماديًا ومعنويًا عبر الأنفاق “المستقبليّة”؟

لا تسليم كلّي

لا يشي ما قاله الملك سلمان للوفود اللبنانية التي تقاطرت الى الرياض لتعزيته بأن مكانة لبنان بالنسبة الى المملكة ستتزعزع أو أن حرارة العلاقة التاريخية التي تربط البلدين سيبرّدها رحيل عبدالله الذي نادرًا ما فوّت مناسبةً فيها ذكرٌ للبنان ليعبّر عن الحيّز الخاص الذي يحتله هذا البلد الصغير في يومياته. ويبني بعض داعمي هذه النظريّة على جملة عناصر آخرها الهبة السعوديّة التي باركها الملك عبدالله ووقّع عليها بيُمناه المرتجفة مرضًا وأرسلها الى فرنسا لشحن الأسلحة الى الجيش اللبناني. وعلى مثل الوقائع نفسها يبني القادة السياسيّون في لبنان من دون أن يعني ذلك “التسليم الكلّي” بأن الملك سلمان لن يحتفظ بنظرةٍ خاصّة به الى الواقع اللبناني وبمقاربةٍ متمايزةٍ للملفات اللبنانية.

تخطيط استراتيجي

لا يترك فريق 14 آذار، الذي كلّ ما أراد خصومُه التصويب عليه اتهموه بتلقّي الإيعازات من السعودية، أيّ مجالٍ للمناورة أو الشكّ في إمكانية تبدّل السياسة السعودية تجاه لبنان، راكنين الى حقيقة النهج الداعم الذي ترتقي به المملكة قيادةً وشعبًا للبنان منذ سنواتٍ طويلة والذي لم يتبدّل يومًا مع تبدّل الحكّام. ولعل ما يُكسِب ذاك النهج شرعيّة وقوّة عبر الزمن حقيقة أن اتفاق الطائف الذي يحكم الحياة السياسيّة اللبنانيّة كواحدٍ من “المقدّسات” التي تُقيت البلد ولا يجوز المساسُ به وُقِّع على أرضها وبرعايتها وبالتالي لن تتأخر في حمايته وصونه أيًا تكن هويّة عاهلها الجديد والى أي جيلٍ انتمى. وإذا كان مجرّد التفكير في “سلخ” الطائف عن الجسد اللبناني فرضيّة ساقطة فإن أحدًا لا يمكنه إنكار حرص السعودية على الأمن اللبناني ليس فقط من باب خوفها على فرط عقد الحكومة التي يترأسها رجلٌ سني في بلدٍ يحتفظ وحده برئيسٍ جمهورية مسيحي، بل أيضًا من بوّابة عدم مغامرتها برمي الساحة بين يدي حزب الله الشيعي الحليف لإيران المنافسِة لها في كل الساحات الشرق أوسطيّة وحيثما وُجِد شيعيٌّ واحدٌ يبحث عن تحصيل حقوقه المهدورة في الشأن العام، وليست تجارب العراق والبحرين واليمن سوى خير مثال. وبالتالي، لا يمكن للمملكة أن تنسحب من المنافسة على الساحة اللبنانية بدعسةٍ ناقصةٍ من قبيل قلب طاولات أو معادلات، وهي النظرية التي يرتقي بها فريق 8 آذار كخلاصةٍ شبه تناقضيّة مع ما يسبق من حديثٍ عن اختلافٍ في طباع سلمان وربط سياسة بلاده تجاه لبنان بما ستشهده المنطقة برمّتها من تطوّرات ولا سيما الساحة السوريّة وأبعد من ذلك المحادثات النووية التي غدت في موعدٍ أقرب.

متأصّل...

تؤكد مصادر “المستقبل” لـ “صدى البلد” أن “طبيعة العلاقة بين لبنان والسعودية مُكرّسة ثوابتُها منذ زمنٍ وليست مرتبطة بتبدّل أشخاصٍ بل بسياسةٍ عامة لا تسمح المملكة بتغييرها، من دون أن يلغي ذلك حقيقة أن لكلّ قيادةٍ طريقتها في التعامل مع الملف اللبناني ومقاربة خاصة بها لا تخرج عن السياسة الخارجية العامة”. وتشدّد المصادر على أن “ما لا يعلمه الكثيرون عن الملك سلمان استنادًا الى تجاربنا السابقة معه كلبنانيين أن عاطفته تجاه لبنان ودعمه له لا يقلان أبدًا عما كان يكنّه الملك عبدالله الراحل”. وتلفت الى “أننا لمسنا تقديره الكبير للبنان يوم شاركنا في مهرجان الجنادرية حيث عبّر لنا عن التزامه دعم لبنان الدائم، وهذا ما يعكس أن التعاطف السعودي مع لبنان متأصّل نظرًا الى أهمية هذه البقعة من الشرق الأوسط للمملكة”.

الحريري وحرارة الرابط...

وعن تأثير المشاكل الداخليّة بين جيلي آل سعود تعلّق المصادر: “السياسة واحدة سواء على أيدي الجيل الأول أم الثاني، فلا ننسى أن الأمير مقرن كان مقيمًا لفترة طويلة في لبنان، كما أن الأمير محمد بن نايف واظب على زيارة لبنان باستمرار”. اليوم، ما يعزز فرضيّة ارتسام مشهديٍة جديدة للعلاقة اللبنانية-السعودية إنما يتجسّد في إشاراتٍ كثيرة لا يهضمها تيار المستقبل لا بل تنفيها مصادره ومفادُها أن علاقة الرئيس سعد الحريري بالملك عبدالله الراحل أقلّ حرارةٍ من علاقته بالملك سلمان كي لا يُقال فاترة. وهنا تلفت المصادر الى أن “كلّ ما يُقال في هذا المجال مجرّد كلام، فما يمثّله الرئيس سعد الحريري على الساحة اللبنانية هو موضع تقدير واحد من جميع القادة السعوديين”.

لهذه الأسباب لا تحريك...

لن يُقدِم الملك سلمان على مغامرةٍ من قبيل “تحريك” سياسة بلاده تجاه لبنان قيد أنملة وسط بركان متحرّك في المحيط، ولكنه في المقابل قد يتشدّد في بعض النقاط وعلى رأسها سياستان: “إقفال الحنفيّات” التمويليّة، وسدّ الطريق أمام توسّع النفوذ الإيراني في لبنان عبر حزب الله من دون قطع حبل الحوار... قد يفعلها العاهل الجديد ولكنّ وعده في الجنادرية سيبقى شاخصًا أمام وجهه ووجوه الموعودين.