أنظار المراقبين مشدودة إلى زيارة التعزية بوفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، التي يقوم بها باراك أوباما إلى السعوديّة، ويجيء الانشداد هذا بعد الانسداد في مجموعة آفاق تمحورت حول مسائل دقيقة ارتبطت بالصراع من سوريا إلى اليمن والبحرين، وبالتطوّر النوعيّ والذي أمسى بحدود معينة وواضحة إيديولوجيًّا في العلاقات الأميركيّة-الإيرانيّة. فقد نحت العلاقة السعوديّة-الأميركيّة في الآونة الأخيرة من علاقة تعاونيّة قائمة على التلاحم الموضوعيّ والاستثماريّ، إلى حالة ضبابيّة يتسلّل إليها الظلام شيئًا فشيئًا، فينكسر بهذا التسلّل، التلاحم الموضوعيّ والاستثماري ليؤول إلى تراكم متوتّر.

غير أنّ الشخوص ليس إلى الزيارة وهي طبيعيّة في مناسبة حزينة كهذه، وبخاصّة أن الملك السعوديّ الراحل عبدالله تمتّع بمكانة دوليّة هائلة ومحترمة. بل تتجه الأنظار حتمًا، إلى المعنى التوظيفيّ للزيارة، في ظلّ تبدّل المشهد الكامل بالعمق الدوليّ من احتضان واضح وبليغ للإرهاب بلا احتساب لانعكاس تلك العاصفة السلبيّ والخطير على الغرب بشقيّه الأوروبيّ والأميركيّ إلى لفظه وتقيّئه. فباراك أوباما في جوهر توجهّه ما كان مؤمنًا بالقراءة السعوديّة المتشنّجة التي ظهرت بشدّتها وعنفها وعدائيّتها تجاه سوريا خلال وجود بندر بن سلطان. والمنطلق الأوّل لعدم إيمانه، رفضه قصف دمشق بصواريخ التوماهوك Tomahawk، وهذا ما أثار حفيظة السعوديين. ثم تداعت المنطلقات بحجمها بدءًا من عدم الدعم المطلق للمعارضة السوريّة، وصولاً إلى ربط العلاقة بإيران بغايات استراتيجيّة مفصليّة تعيد الاعتبار للتوازن الذي فقد بسبب احتضان السعوديين والقطريين والأتراك للحركات التكفيريّة.

لم يرق للأميركيين، وهم في الأساس، من نظّروا لاحتراق الشرق بأتون هذا الصراع المتأجّج بدءًا من العراق، أن يرتدّ ذلك الفكر المتطرّف إلى بنيوياتهم وشبابهم واقتصادهم بفعل غسل الأدمغة من ناحية، والإغراءات المالية من ناحية ثانية. كما لم يرق لهم أيضًا أن يتشنّج الخطاب السعوديّ برؤى يسودها العنف المتفلّت، تغلّب القوى التكفيريّة كبديل لأنظمة تشاء إسقاطها. انسابت القراءة الأميركيّة إلى الداخل السعوديّ بثقلها فحتمت تغيرات بنيويّة بدءًا من إقالة الأمير بندر بن سلطان وصولاً إلى الاندراج في مفهوم الحرب على الإرهاب، من دون التهاون في مسألة إسقاط نظام بشار الأسد في دمشق بالمفهوم السعوديّ الواسع.

لكنّ المسألة لم تتوقف عند تلك الحدود، ذلك أنّ السعوديين اليوم يعيشون تداعيات الأزمة السوريّة والعراقيّة بريبة وقلق. فقد توسّعت بثقلها المذهبيّ الحامي، من العراق إلى اليمن، فيما البحرين يقف على فوهة البركان. ماذا يعني هذا الحراك المتأزّم بجوهره؟ تتجّه بعض المصادر والأوساط إلى الاعتبار بأنّ هذا الحراك يعني بأنّ الأميركيين قرّروا بوضوح تطويع السعوديين وتحجيم غلوّهم بواسطة الإيرانيين، أي بواسطة اتفاق، أوحى الرئيس الايراني حسن روحاني بأنّه نما من محادثات ناجحة ولو أنّه لم يكتب. بهذا المعنى ثمّة أزمة سعوديّة-أميركيّة تتوازى مع أزمة إسرائيليّة-أميركيّة.

لا يمكن التكهّن بهذا المعنى بأنّ زيارة أوباما للسعوديّة قد تحدث فجوات إيجابيّة جذريّة وسريعة. ذلك أنّ الموقف الأميركيّ لن يتبدّل في المدى المنظور من ضرورة بقاء النظام السوريّ، بعكس الموقف السعوديّ المصرّ لإسقاطه. وقد نميّ بأنّ أوباما شخصيًّا، وخلال اجتماع مصغّر في البيت الأبيض، قد اقتنع بضرورة بقاء النظام وبقاء بشار الأسد بصورة شخصيّة، لكون محاربة داعش والنصرة تتطلّب بقاءه، ومن ثمّ اقتناعه بأن التطرّف السنيّ بحجمه القاتل والمخلّ بتوازن الأمن العالميّ يتطلب نموًّا لحراك سنيّ ليبراليّ، وتعاونًا مع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة انطلاقًا من تخصيب الأورانيوم وصولاً إلى صفقة تحدد أفق التماهي. وإذا ساغت ملاحظة متّصلة، فلا بدّ من التأمّل بمشهد وزير الخارجيّة الأميركي جون كيري يسير جنبًا إلى جنب مع نظيره الإيرانيّ أحمد جواد ظريف سيرًا على الأقدام في جنيف. إنّه مشهد يؤكّد أن التعاون الإيرانيّ-الأميركيّ بات ضرورة استراتيجيّة للأميركيين والإيرانيين على السواء، فتوظّف بما سمّاه جون كيري الحرب الطويلة على الإرهاب.

وبرأي أوساط على صلة بالمملكة العربيّة السعوديّة، فإنّ الأخيرة بعد الانتقال من حقبة الملك عبدالله بن عبد العزيز، إلى حقبة الملك سلمان، ستقوم حتمًا بمجموعة قراءات نقديّة، تتوكّأ على رسالة روحاني المعزيّة، ومشاركة ظريف في المأتم، فضلاً عن زيارة أوباما بمغزاها الدقيق. كما أنّ القراءة ستأخذ بعين الاعتبار ما تمثّله داعش من خطورة، كمولودة من رحم الفكر الوهابيّ المتشدّد، على المملكة بصورة مباشرة. فبمجرّد أن أعلن أبو بكر البغدادي نفسه خليفة بَطَلَتْ رعاية السعوديّة بهالتها للمسلمين السنّة. البغدادي خطر على السعوديّة بأمنها ودورها كما هو خطر على أمن الدول العربيّة برمتّها. أمّا الخطر الاخر الداهم وبالقراءة السعوديّة، فهو تمدّد الحوثيين بحجمهم المذهبيّ وخلفيّتهم الإيرانيّة باتجاه الحدود اليمنيّة-السعوديّة، واحتمال تحريك الأرض البحرينيّة بالعمق المذهبيّ. فتؤشّر تلك الصورة إلى أن المملكة بين فكيّن: فكّ داعشيّ خطورته شديدة على حضور المملكة، لا يزال ينمو في رعاية تركية أردوغانية واضحة، وفك إيرانيّ، يفترض كثير من الخبراء بأنّه ومن باب الواقعيّة السياسيّة يتحرّك وفقًا لخطة استراتيجيّة تقوم على التمدّد رويدًا رويدًا بأوراق ثابتة ومؤثرة وغالبة على الأرض كـ"حزب الله" والحركة الحوثيّة، وفحوى التمدّد غير محصورة بالشيعة فقط، وإنما تتوسّع أنظومتها باتجاه حركات سنيّة كحماس مثلاً، وشخصيات لبنانيّة سنيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ التمدّد بفحواه لا يعبّر عن احتواء بل عن تماه محترم لهويّة من شاء البقاء في الخطّ الإيرانيّ، أو ما سمي بجبهة الممانعة. أمام هذا المشهد، سيكون لزامًا على السعوديّة وبحسب مراقبين أن تجري حسابات دقيقة تبدي فيها المزيد من المرونة في بعض الساحات التي شهدت اشتباكًا بينها وبين إيران بواسطة المكوّنات السنيّة والشيعية.

ولعلّ الحوار في لبنان بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" والذي تمّ بسعي أميركيّ واضح، أطلّ من مرونة سعوديّة فاهمة بالعمق لمعنى الاستقرار في لبنان بعد تحول المدى من سوريا إلى البحرين، إلى مجموعة ساحات ملتهبة ومتفجرة. إنّ زيارة أوباما للمملكة معطوفة على أحداث اليمن ستؤسّس لرؤية جديدة بعد تبدّل المشهد في العالم كلّه من احتضان للإرهاب إلى الحرب عليه. السعوديّة معنية بهذه الحرب، والمنطلقات باتت واضحة تبدأ بحوار مع إيران من أجل ترتيبات واضحة في المنطقة. أمّا في لبنان فعودة سعد الحريري إليه ستكون إحدى تلك الثمار المشتهاة لبنانيًا (مسيحيًّا وإسلاميًّا)، كما هي مطلوبة إيرانيًّا وأميركيًّا وستُطلب من السعوديين بصورة مباشرة، لإرساء قاعدة واضحة لتوازن يولد من رحمه الاستقرار الداخليّ، الذي من شأنه أن يعزّز قدرة الجيش اللبنانيّ على مكافحة الإرهابيين على الحدود ما بين لبنان وسوريا.