إن الحملة التي أطلقها الوزير وائل أبو فاعور المتعلقة بسلامة الغذاء والأطعمة واللحوم الفاسدة ألقت الضوء على العديد من المخالفات المستمرة، ولكن الأهمّ أنها خلقت علامة استفهام حول الصلاحيات، وحقوق المستهلك ومدى احترام هذه الحقوق في لبنان.

فحقوق المستهلك هي عملية متكاملة تتضمّن التوعية والمراقبة اليومية والعمل المتواصل، وليست مرتبطة بأي شكل من الأشكال بموجة موسمية أو نشاط وزير معيّن.

بدأت فكرة حقوق المستهلك مع الرئيس الأميركي جون كينيدي في 15 آذار عام 1962 عندما ألقى كلمته الشهيرة أمام الكونغرس الأميركي والتي قال فيها: «إنّ كلمة مستهلك تشملنا كلنا ولذلك فهي تشكّل أكبر مجموعة اقتصادية تؤثّر وتتأثّر بكلّ القرارات الاقتصادية العامة والخاصة، وعلى رغم هذا الثقل الكبير للمستهلك إلاّ أنّ صوته لا يزال غير مسموع».

أما في لبنان فالصوت لا يزال خافتاً وخافتاً جداً، ولا أثر لأيّ «استشراس» للحصول على هذه الحقوق وحتى للمطالبة بها، فالفضائح التي ظهرت في الأشهر الأخيرة هي كفيلة بإحداث ثورات حقيقية، ولكن الواقع أظهر أنّ ردود الفعل لا تزال خجولة وخجولة جداً. وعلى رغم من وجود جمعيتين لحماية المستهلك، 9 وزارات تراقب نوعية السلع وأسعارها، مديرية لحماية المستهلك في وزارة الاقتصاد… تبقى الحلول والإنجازات المرتبطة بحماية المستهلك دون المستوى المطلوب.

إنّ مجلس النواب قام بتعديل أحكام قانون حماية المستهلك في الجلسة التشريعية المنعقدة بتاريخ 2 نيسان عام 2014، فأدخل العديد من التحديثات الهامة على مستوى مكافحة الغش والعقوبات، إلا أنّ التطبيق لا يزال غير واقعي، ولا تفعيل حقيقياً لآلية الرقابة.

فقد استحدث هذا القانون ما سُمّي بمديرية حماية المستهلك لتحلّ مكان ما كان يُعرف بمصلحة حماية المستهلك ووسّع صلاحياتها، أما المادة الحادية عشرة من القانون فأبرزت بوضوح دور الدولة في حماية المستهلك، وهنا التقصير الأبرز في حماية المستهلك، فقد انشأ القانون ما يُعرف بالمجلس الوطني لحماية المستهلك يترأسه وزير الاقتصاد وعضوية المدراء العامين لوزارات الاقتصاد، الزراعة، الصحة، البلديات، الصناعة، البيئة، السياحة، الاتصالات، الإعلام، التربية، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة المقاييس والمواصفات وممثلين عن اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة في لبنان، وعن الصناعيين، ونقابة وكالات ونشرات الدعاية والإعلان، وجمعيات حماية المستهلك، إلا أنه لم يتمّ تعيين الممثلين على رغم الفضائح المدوّية في البلد على صعيد حماية المستهلك.

أما عمل مديرية حماية المستهلك فلم يتمّ توضيحه من حيث الإجراءات الدورية، واقتصر عملها على القيام بالأبحاث وتلقي الشكاوي ومعالجتها، فهل من المنطق أن تنتظر مديرية حماية المستهلك الشكاوى لتتحرك بدل أن تكون لها خطة شاملة للرقابة الدورية في كافة المناطق.

من جهة أخرى أنّ محكمة المستهلك معطلة منذ تأسيسها في عام 2005 ولم تجتمع ولا مرة واحدة حتى اليوم.

في مقابل ذلك نرى أن أوجه الغش في لبنان تتنوّع وتتكاثر، من اللحوم إلى المياه، من تعرفة الموتورات الخاصة، إلى طريقة احتساب فوائد المصارف إلى شتى الإعلانات الخادعة التي ذكرها القانون.

فما زال المعلنون يصرّون إلى اليوم على الإعلان عن عروضات عن سلع وخدمات من دون إدراج ضريبة الـ TVA مما يعتبر تضليلاً وإعلاناً خادعاً، ويصرّ التجار على الغش بالمقاييس والموازين، ولا تطبّق معظم المحال التجارية مفهوم العلاقة التعاقدية بين البائع والشاري بحيث يستطيع استرداد الأموال في حال عدم رضاه عن السلعة، ويبقى المسيطر الأهمّ هو عدم الوضوح وعدم احترام لحقوق المستهلك. هذا كله يؤدّي إلى غياب حماية المستهلك، بما يرسل رسالة واضحة تدعم عملياً الفساد. يستطيع مفتش وزارة الاقتصاد التابع لمديرية حماية المستهلك حماية المواطن اللبناني من دخان السجائر في الأماكن العامة التي يمنع القانون التدخين فيها، كما يستطيع أن يقوم بكلّ ما قام به مفتشو الصحة وأكثر لأنّ لهم صلاحيات لحماية المستهلك من كلّ ما يسبّب ضرراً، من صحته إلى جيبه وحمايته من الاحتكارات وتأمين كلّ حقوق المستهلك في لبنان.

علماً أن القانون أعطى المفتش حق الاستفادة من الغرامات لإعطاء حافز حيث قسّم المبالغ المستقاة من الغرامات وثمن البضاعة المحكوم بهما مشترك ينشأ لدى مديرية حماية المستهلك توزع عائداته وبالتالي من المفروض أن يشجع هذا التقسيم المفتشين للقيام بواجباتهم وتعزيز الرقابة، مع العلم أنّ هذا الأسلوب تمّت تجربته مع الجمارك وأترك للقارئ الحكم.

إن مديرية حماية المستهلك بتكوينها اليوم وبطبيعة عملها لن توفر حماية المستهلك ما لم تعط صلاحيات أكبر، علماً أنّ عدد الـ170 مفتشاً هو عدد جيد لتحقيق نتائج أفضل، أقله على مستوى المحاضر المسطرة وهي لا تتعدّى الـ400 سنوياً، على رغم الفساد المستشري في هذا الإطار. فدورها الأساسي يجب أن يكون مراقبة الأسواق مراقبة دورية منذ دخول السلعة إلى لبنان حتى وصولها إلى المستهلك، لا أن تتحوّل إلى مجرّد خط ساخن، أو أن تتحرّك موسمياً بحسب الظروف.

ومن المفترض أن يكمل هذا العمل، عمل المجتمع المدني وجمعيات المستهلك، فمثل هذه الجمعيات لها تأثير بارز من ناحية التوعية ومن ناحية الضغط على صانعي السياسات، وتسمية الأمور بأسمائها، ففي دول العالم تلعب هذه الجمعيات دوراً أساسياً في الحفاظ على حقوق المستهلك. ويكون لها تأثير قويّ في مقاطعة سلعة إذا ثبت أنها تقوم بالغش، بل أبعد من ذلك إذا ثبت أنها تنتهك أموراً أساسية مثل عمالة الأطفال أو غيرها.

وهي تكون مسؤولة عن نشر الثقافة الاستهلاكية وتوعية المواطن حول حقوقه، عبر نشر منشورات خاصة، فمثلاً تعدّ مجلة الـwhich في بريطانيا من المجلات الأكثر تأثيراً في هذا الإطار.

أما في لبنان فما زال تعاطينا مع حقوق المستهلك على طريقة الهواة، حتى المواطن نفسه لا يدرك أهمية الأمر ومدى ما يملكه من حقوق، فهو يخاف من المطالبة ويخاف من المواجهة في ما يخصّ حقوقه الاستهلاكية. والأسلوب المعتمد في المديرية لا يساعد أبداً اليوم. خلال كتابة هذا المقال اتصلت على 1739 لأتفاجأ بالمجيب الالكتروني يطلب مني أن أسجل شكواي على الهاتف!

من ناحية أخرى فإنّ عدم إصدار المراسيم التنفيذية لمشروع قانون مكافحة الاحتكار والذي ما زال في الأدراج يساهم في تدني حقوق المستهلك في لبنان أيضاً وأيضاً والمطلوب استصدار المراسيم التطبيقية وتنفيذها فالتنافس الحرّ هو محرك ذاتي لضمان جودة السلعة بأسعار تنافسية مما يضمن حقوق المستهلك، أما أوجه الاحتكار المتعدّدة فتوقع المواطن في فخّ أسعار مرتفعة مقابل خدمات سيّئة. والأمثلة في بلدنا كثيرة فلا يتخيّل للبعض أنّ حقوق المستهلك في لبنان يتمّ انتهاكها فقط في اللحوم والأطعمة، إن هذه الحقوق تُنتهك في كلّ شيء، في اتصالاته، في النفايات التي يدفع لقاءها أغلى الأثمان، في تأمينه الصحي، في قرضه المصرفي، في خدمات مرفأه ومطاره، وكهربائه ومائه، في أسعار تذاكر السفر والضرائب عليها كلها حقوق استهلاكية ابتلعها الاحتكار وعدم الرقابة.

كما من الضروري الإسراع بإقرار قانون حرية الحصول على المعلومات لتتسم العلاقة مع المواطن بالشفافية التامة التي تخوّله الإطلاع على كافة المعلومات التي تطاول حقوقه والخدمات المقدمة إليه على كافة الصعد. وقد يكون هذا القانون هو الأهمّ لمكافحة الفساد في لبنان.

إنني اعتبر أنّ هذا القانون هو أساس «العدة» المطلوبة لمكافحة الفساد واعتماد الشفافية في لبنان، وللأسف تأجّل إقرار هذا القانون بطلب من دولة الرئيس سلام.

ألم يحن الوقت لنتوحّد حول حقوقنا الاستهلاكية، وألم يحن الوقت من أن تخاف الدولة من المستهلك الذي وصفه كينيدي بالقوة الاقتصادية الأكبر تأثيراً، ألم يحن الوقت لهذه القوة الاقتصادية أن تتحرك وتطالب وتقاطع؟

فليتمّ تفعيل مديرية حماية المستهلك بالمستوى المطلوب، وعندها لن نكون بحاجة إلى هيئات جديدة لا لسلامة الغذاء ولا نيابة عامة غذائية، فإنّ الرقابة اللاحقة والدائمة أثبتت جدواها في كلّ بلدان العالم، فحتى لو دخلت بضاعة لا تتوافر فيها المواصفات من المفروض أن يتمّ كشفها من قبل مديرية حماية المستهلك من خلال الكشف الدائم على كلّ البضائع المعروضة في الأسواق التي يجب أن يكون عندها صلاحيات لأخذ كلّ الإجراءات اللازمة.

كفانا اختراعاً لوظائف جديدة لمجرّد التوظيف كما ذكرنا بأنّ كلّ بلدان العالم تحمي المستهلك من خلال الرقابة اللاحقة، وقبل الانطلاق بهيئة لسلامة الغذاء لا ندري إذا كانت ستختلف عن مثيلاتها في السابق، يجب معالجة مواضيع أساسية تتعلق بالصحة العامة مثل احتكار الدواء مثلاً، نعم في الواقع لا يوجد شركات حصرية للأدوية ولكن الشركات المنتجة لا تبيع بالغلافات المسجلة في لبنان إلا للوكيل الحصري ولا يستطيع المستورد أن يستورد بغلافات غير المعتمدة في لبنان، واعتماد الأدوية الـgeneric في كلّ التعاونيات والضمان الاجتماعي من الممكن أن تخفف فاتورة الأدوية للدولة اللبنانية أقله إلى النصف. والظاهر اليوم كيف يتمّ عرقلة هذا الموضوع على رغم إصرار وزارة الصحة عليه.

كما أن اللجان هي مقبرة القوانين، فإنّ الهيئات هي تضييع للصلاحيات والفعالية في معالجة المواضيع، الأجدى اليوم هو إقرار قوانين فاعلة ورائدة وإعطاء الصلاحيات الضرورية للمديريات المختصة.