لا يسوغ توصيف وتقييم العملية التي قام بها "حزب الله" في مزارع شبعا، وكأنّها في الجوهر تعيدنا إلى تداعيات ما حصل خلال المقدّمات لحرب إسرائيل على لبنان في شهر تموز 2006، ذلك أنّ المرحلة السابقة كانت في حقيقتها المتراكمة امتدادًا لحقبة سنة 2005 الحافلة ببركان وزلزال كبيرين ترجما باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. كانت امتدادًا للقرار 1559 الذي لم يحرّر لبنان من سوريا، إذ نحا القرار عن هدفه بعملية التحرير ليظهر بحالة توظيفيّة مدروسة استهلكت دم رفيق الحريري لتفجير المنطقة بالسياق المذهبيّ القاتل برعاية إسرائيليّة واضحة، وما قول وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس خلال سنة 2006 بالشرق الأوسط الجديد سوى إطلالة حقيقيّة للرؤية التي نحتها فريق متشدّد في أميركا.

آنذاك كان المشهد مختلفًا عن المشهد الحاليّ. لم تكن الحرب الإسرائيليّة على لبنان تعبيريّة نمت من أسر "حزب الله" لجنديين إسرائيليين، بل هي تجسيديّة لرؤية أخذت لبنان والمنطقة إلى حقبة مذهبيّة، كانت باحثة عن أوراق تستثمرها ومكتوبة بدم رفيق الحريري. بمعنى أنّ الحرب الإسرائيليّة واردة لتحقيق شرق أوسط جديد تلقائيًّا من لبنان، في الإشكاليّات الطوائفيّة ليصير عميمًا ومتشعبًّا في معظم الدول المشرقيّة. في ذلك الحين كانت إسرائيل تريد ردع إيران متكّئة على تحالفها الاستراتيجيّ مع الولايات الأميركيّة المتحدة، فاستثمرت بدورها الدم الحريريّ المراق بحدوده المذهبيّة لتعطفه في الاتجاه الخليجيّ، مستندة على بون تاريخيّ بين الشام والحجاز. وعلى الرغم من ذلك، انكسرت إسرائيل على المستوى الدوليّ بالقرار 1701، ثمّ انكسرت بتقرير فينوغراد أي من الداخل الإسرائيليّ نفسه.

فشلت إسرائيل بهذا المعنى، ولكنّها عادت لتمتدّ بالأوراق التكفيريّة. استولدتها من رحمها بالتعاون حتمًا مع الإدارة الأميركيّة. جاء الربيع العربيّ كحالة محاكاة للوجدان العربيّ في توقه إلى ديمقراطيّة تنمو وتسطع وتزدهر بإرادة الناس من تونس إلى مصر وصولاً إلى سوريا والعراق... فهو لم يكن توقًا إسرائيليًّا بل حجاب احتجبت به إسرائيل ومن ثمّ تركيّا وقطر والسعوديّة فتلاقت المصالح على تفجير "برّ الشام"، كما تلاقت على محاولة قضم مصر، بالسياق المذهبيّ. بهذا المعنى كانت فلسطين وسوريا ولبنان والعراق المدى المستهدف، بجوهرين، ضياع القضيّة الفلسطينيّة، ومن ثمّ تقويض الدور السوريّ-الإيرانيّ في المنطقة بدفع القوى الخليجيّة والتركية للمواجهة، واستهلاك أرض الشام وبغداد لتلك المنازلة الفعليّة التي من شأنها في النهاية أن تقضم فلسطين برمزيّتها التاريحيّة والوجوديّة والسياسيّة فتمزقها تمزيقًا كاملاً بالأنياب التكفيريّة، أنياب "داعش" و"النصرة".

أملت تلك المواجهة على "حزب الله" بقراءة استراتيجيّة حسب رؤيته، وبخلاصتها وجد أن مواجهة إسرائيل ضرورة حتميّة في سوريا لهدفين: هدف إبعاد الحرب عن الداخل اللبنانيّ قدر المستطاع، والهدف الثاني إفشال المخطّط الإسرائيليّ العامد على ترميد المنطقة المسماة ببرّ الشام بخصوصياتها المذهبيّة بالأوراق التكفيريّة، والترميد يعني فقدان مشروعية وجود دولة فلسطينيّة، وتغيير الهوية العربية والمشرقيّة للمكونات الطائفيّة والمذهبيّة، وقد لاحظ بدوره أن إسرائيل تريد استبدال النفط الخليجيّ بالعقل الإسرائيليّ كما كتب غاي بيتشر في صحيفة "يديعوت أحرونوت" "انتهى عصر "النفط" العربيّ... وبدأ عصر "العقل" الإسرائيليّ". وأهمّ تغيير يشاؤه الإسرائيليّون لهوياتنا هو نزع الإسلام من سياقه القرآني، ونزع المسيحيّة من هويتها المشرقيّة.

يجدر بالقارئ المتابع إدراك سياق المواجهة التي لم تتوقف على الإطلاق مع إسرائيل. فهذه الأخيرة مذ فشلت في المواجهة المباشرة على الرغم من امتلاكها مقومات الغلبة، راحت تخطّط مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو وفريق عمله للانقضاض على مقومات المشرق العربيّ الحضارية والروحيّة والسياسيّة والثقافيّة، بغرس الصراع المذهبيّ بين الشيعة والسنّة، وتاليًا بتعميم صراع مسيحيّ-إسلامي من باب الإصرار على تهجير المسيحيين سواء في العراق أو سوريا أو لبنان... ألا يتماهى هذا الأمر مع إفراغ القدس من المكوّن الأرثوذكسيّ العربيّ عن طريق شراء الأراضي من البطريرك اليونانيّ ثيوفيلوس؟ كما أنّ المصالح الأميركيّة والأوروبيّة تلاقت مع التخطيط الإسرائيليّ، ولم تقف عند حدود التلاقي بل ذهبت إلى حدود التبنّي طوعًا، فأوغلت في الصراع في سوريا وعليها مصرّة على إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد...

وفي المحصّلة لم يسقط الأسد، وشعر الأميركيون بالمقابل، أنّ الزرع الإسرائيليّ قد أمسى مسخًا متوحّشًا يملك القدرة على اقتحام عقول الشباب في أوروبا وأميركا، وجذبهم إلى الانتحار تحت مسمّى الجهاد، وليس هذا فقط، ولكن بدأت الارتدادات تجتاح أوروبا بدءًا من فرنسا وتحديدًا في الاعتداء الذي طاول مجلة "شارلي إيبدو" في قلب باريس. كلّ المشهد تغيّر في ظلّ تلبّد واضح في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل-نتانياهو. لم يعد الأميركيون حاضنين للإرهاب بمشروعيّته السياسيّة والأمنيّة، أي لم يعودوا على وجه التحديد، حاضنين للمشروع الإسرائيليّ بإطلاقيّته، فوقع البون ومن ثمّ الشرخ، وما زاد الأمور وضوحًا في أدبيات الشرخ اعتماد الأميركيين على تفاهم مع إيران بغية إعادة التوازن إلى المنطقة، إلى سوريا والعراق ولبنان، قدر المستطاع بعد استفحال خطر "داعش". فتبدّل المشهد من احتضان التكفيريين إلى الحرب عليهم، منطلقة من هذا التفاهم عينًا. قررت إسرائيل الردّ على الإرادة والإدارة الأميركيّة بمعاقبتها انتخابيًّا بدعم الجمهوريين وبعمليّة نفدتها في القنيطرة ضدّ "حزب الله"، وفي العمق الاستراتيجيّ ضد التفاهم الأميركيّ-الإيرانيّ، بل ضد الرئيس الأميركي باراك أوباما بصورة شخصيّة. المفارقة هنا أن إسرائيل قامت بتلك العملية من الجوّ ولم تقم بها بكمين يطال الحزب، فقتل الضابط الإيراني ومعه جهاد مغنيّة، والمفارقة الثانية أنّها تمّت في الموقع الذي فيه تبّنت إسرائيل جبهة النصرة وشاءت استهلاكها في دفعها من هناك نحو البقاع الغربيّ بخصوصيّته المسيحيّة-الدرزيّة، واستطرادًا نحو الجنوب بخصوصيته الشيعيّة.

ردّ "حزب الله" بكمين نوعيّ في مزارع شبعا، كان منتظرًا، وبخاصّة من الجانب الإسرائيليّ، الذي ترقبّه وفهمه بل فهم مغزاه ومحتواه، بعد انقسام عموديّ في الحكومة الإسرائيليّة وبين الحكومة والمعارضة، عن جدوى تعرض إسرائيل للحزب في القنيطرة وتم الردّ من دون المساس بجوهر الاستقرار اللبنانيّ، أو هتك القرار 1701 لكون المزارع غير خاضعة لمفاعيله.

أثبت الحزب أنّه لا يزال يملك بقوّة القدرة على القتال في سوريا وصولاً إلى مزارع شبعا لأنّ المعركة متكاملة. جمهور الحزب فرحوا، فيما الإسرائيليون خافوا وتهيّأوا للنزول إلى الملاجئ. أظهر "حزب الله" بقتاله من الجنوب إلى سوريا أنه "لم ينهك" ويتأثر بالصراع في سوريا بدليل قدرته على تنفيذ عمليّة بهذا الحجم في مزارع شبعا، فيما إسرائيل وبكلّ هذا الاصطفاف منذ 1996 إلى سنة 2000، ومن ثمّ 2007، وصولاً إلى الواقع الراهن أثبتت أنها دولة معطوبة بالعقد التاريخيّة وقد أفرغت من الأوراق بسبب فشل خططها، إسرائيل تبقى في كلّ المنعطفات دولة من كرتون وورق.