في تقييم سريع للتطوّرات العسكرية التي وقعت بين مقاتلي "حزب الله" والقوات الإسرائيليّة المحتلّة لمزارع شبعا المتنازع عليها والجولان السوري، يمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: إنّ "حزب الله" هدّد بالردّ على عمليّة "القنيطرة" التي حصلت في 18 كانون الثاني، وقد نفّذ وعده بعد مضي عشرة أيّام، ليُثبت مرّة جديدة مصداقيّته العالية وسعيه الدائم لفرض مُعادلة "توازن رعب" مع إسرائيل، بغضّ النظر عن المخاطر المحيطة.

ثانياً: أثبت الردّ الذي وقع في الجزء المحتلّ من مزارع شبعا، دقّة مُراقبة "المقاومة الإسلاميّة" ومتابعتها لخطوط سير الآليّات والمواكب الإسرائيلية وتوقيت تحرّكها، وقدرتها على الرصد وعلى التمويه وعلى تنفيذ هجوم سريع وخاطف من دون أن يلحق بعناصرها أي خسائر على الإطلاق، مع تسجيل عجز القوّة الإسرائيلية التي تعرّضت للهجوم عن الردّ وعن الدخول في مواجهة ناريّة، حيث عمد عناصر الآليات إلى الفرار فوراً من مركباتهم بعد أن قطع إنفجار الصاروخ الأوّل والذي أصاب الآليّة الطليعيّة الطريق أمامهم.

ثالثاً: أظهر "حزب الله" جدّية عالية وخبرة كبيرة في التعامل مع القصف المدفعي الإسرائيلي، من الناحية الميدانية لجهة التحركات والردود العسكرية التي قام بها، ومن الناحية الإعلامية لجهة وضع العمليّة في إطار حق الردّ المشروع وذلك عبر بيان حمل عَمداً الرقم واحد، الأمر الذي أكّد جهوزيّة "الحزب" لخوض حرب واسعة وشاملة، ولمواكبتها ببيانات أخرى، إن ذهب الإسرائيلي بعيداً في ردّه، وهو ما ساهم في خفض إسرائيل لسقف ردودها العسكريّة، ودفعها إلى الخوف من أيّ تصعيد في عمليّاتها العسكريّة، لأنّ "حزب الله" كان جاهزاً للدخول في حرب ضارية وشاملة.

في المقابل، يُمكن تسجيل المآخذ التالية على ردّ "حزب الله" على عمليّة القنيطرة، وهي:

أوّلاً: إنّ ردّ الجناح العسكري لـ"حزب الله" والذي أوقع قتيلين بينهم رائد وسبعة جرحى (ثلاثة منهم إصاباتهم خطرة) في صفوف نخبّة وحدات الجيش الإسرائيلي، جاء دون مستوى إعتداء إسرائيل على الموكب الأمني اللبناني-الإيراني في القنيطرة، والذي كان أسقط ستة من قادة ونخبة مقاتلي "الحزب"، إضافة إلى إلحاقه إصابات مُختلفة ضمن المجموعة الإيرانيّة المُرافقة جرى التعتيم عليها إعلامياً لأسباب مرتبطة بطهران. وجاءَ ردّ "الحزب" أقلّ مِمَّا كان مُنتظراً بعد تصريحات لبنانية وسورية وإيرانية رفعت سقف التهديد والوعيد عالياً جداً، وتحدّثت عن "عاصفة مدمّرة" و"ردّ مزلزل" سيلحق بإسرائيل، لتأتي العمليّة-على أهمّيتها دون هذا السقف، الأمر الذي ساعد رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتانياهو على التملّص من فتح جبهته الشماليّة، في إنسجام مع الموقف الأميركي الذي وصف العمليّة بالحادثة الخطيرة والذي شدّد في الوقت عينه أنّها "لا تستدعي نشوب حرب". وتردّد في أوساط إعلاميّة أنّ الوحدة العسكرية في "المقاومة الإسلاميّة" كانت قادرة عملياً على إبادة كامل القوّة العسكريّة الإسرائيليّة عن بكرة أبيها، لو واصلت إطلاق الصواريخ لمدّة دقيقة إضافيّة، لكنّها إكتفت بإطلاق خمسة صواريخ موجّهة بأشعة الليزر، وأخلت موقعها بسرعة خاطفة.

ثانياً: ترافقت عمليّة "حزب الله" مع إعطاء أخبار إعلامية غير صحيحة لوسائل الإعلام، تحدّثت عن عدد كبير من القتلى ومن الآليات المدمّرة للجيش الإسرائيلي، قبل أن يتم التراجع عن ذلك، ليتبيّن أنّ العمليّة ليست بهذه الضخامة وخسائرها في الجانب الإسرائيلي محدودة، وهي مشابهة لعمليّات عدّة كان يُنفّذها "الحزب" في زمن الإحتلال الإسرائيلي للجنوب، عندما كان يهاجم المواقع والآليّات العسكريّة بوابل من الصواريخ المباشرة من مسافة بعيدة، بغض النظر عن التطوّر الذي لحق بنوعية هذه الصواريخ التي باتت بحوزة مقاتلي "الحزب" اليوم.

ثالثاً: بعيدًا عن التبريرات التي أعطيت لأسباب تنفيذ العمليّة في مزارع شبعا، بدلاً من الجولان حيث وقع الإعتداء الإسرائيلي، فإنّ "حزب الله" أكّد مرّة جديدة أنّ قرار الحرب والسلم مع إسرائيل، والذي يُفترض أن يكون بيد السلطة اللبنانيّة الشرعيّة، هو بيد قيادته. وإذا كان صحيحاً أنّ هذا الإختيار هو بهدف إرباك الجيش الإسرائيلي وتضليله، وبهدف إعادة التذكير بأراضٍ لبنانية تحتلّها إسرائيل، فإنّ الأصحّ أنّ لبنان هو دائماً الحلقة الضعيفة والذي يُستخدم لإنطلاق العمليّات ضد إسرائيل، من دون وجود أيّ عمليّات تُذكر لا من قبل الجيش السوري ولا من قبل الجيش الإيراني الذي يملك صواريخ بعيدة المدى تفوق تلك التي كان يملكها الجيش العراقي أيّام الدكتاتور صدّام حسين بأضعاف مضاعفة، وكأنّ أحداً من "محور الممانعة" مُستعدّ لتحمّل تداعيات الصراع المفتوح مع إسرائيل، وعلى لبنان وحده تحمّل كل النتائج والتبعات!

في كل الأحوال، المعركة لم تنته، وهي تُشكّل حلقة من ضمن الصراع المفتوح بين إيران عبر رأس حربتها "حزب الله" من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى. والأكيد أنّ حال عدم الإستقرار والتوتّر الأمني في كل من مزارع شبعا والجولان سيبقى مفتوحاً في الفترة المقبلة، حيث يُنتظر أن نشهد في الأشهر الآتية عمليّات قصف صاروخي هنا وعمليّات أمنيّة محدودة هناك، وردود هنا وهناك، إنطلاقاً من خطّة إستراتيجيّة تقضي بفتح جبهة واسعة ضدّ الجيش الإسرائيلي بشكل تصاعدي، وذلك على طول الحدود المشتركة مع لبنان وسوريا، في ظلّ الفوضى والمواجهات القائمة في الداخل السوري، خصوصًا في المناطق الحدوديّة مع إسرائيل. والمفارقة أنّه على الرغم من أنّ أحداً لا يريد التورّط في حرب شاملة في هذا التوقيت، حيث أن إسرائيل تُدرك أنّها لا يُمكن أن تنتصر في أيّ حرب جديدة مع "حزب الله"، وسوريا تحرص على التركيز على معركتها على جبهاتها الداخلية، وإيران ترغب بإنهاء مفاوضاتها مع الدول الغربيّة بشأنّ الملفّ النووي باتفاق نهائي من دون أيّ تشويش خارجي، و"حزب الله" يعرف أنّ التوقيت الحالي غير مناسب لمواجهة شاملة بسبب المعطيات الإقليميّة الحاليّة... على الرغم من كل ذلك، قد تنجرف الأمور تدريجاً إلى حرب ضارية في المستقبل، تخرج من سيطرة الجميع، وذلك عبر عمليّة من هنا، وردّ من هناك، وردّ على الردّ من هنالك...