تراكمت ردود الفعل من الداخل اللبنانيّ، على ​عملية مزارع شبعا​ التي قام بها "حزب الله" ردًّا على اعتداء القنيطرة، لتشي بثغرات بنيويّة ليس الوقت مناسبًا لكشفها في ظلّ واقع الاشتباك الكبير، بين إسرائيل و"حزب الله". وسواءً جاءت تلك الردود عن سوء نيّة أو حسن نيّة، إلاّ أنّها تشكّل مادّة دسمة للإسرائيليين لاستقرائها بما تحمله من معانٍ ودلالاتٍ ورؤى. ذلك أنّ الإسرائيليين في أبحاثهم السياسيّة هم على أعلى المستويات، وفي دوائرهم الاستخباريّة وتجلياتهم الأمنيّة، ينطلقون من تلك الردود المختلفة، يستجمعونها يفحصونها بدقّة، وفي لغة أدقّ يشرّحونها بعمقها حتى يتضح الخطاب السياسي اللبنانيّ المنقسم عموديًّا أمام تلك العمليّة، فيجري على هذا المعطى المقتضى.

الاسرائيليون بهذا المعنى، وإن هضمت أمعاؤهم تلك العمليّة على مضض، وإن استذكروا أن أرضية الاشتباك مع "حزب الله" قد تبدّلت بالكليّة، عن الذي حصل في شهر تموز من سنة 2006، لكنّ التخطيط يجيء عندهم من كثافة التبحّر والتشخيص بعدم إجماع فريق وازنًا كان أو غير وازن، لعمليّة مزارع شبعا، وبهدفيّة عدم الإجماع. هم يرنون إلى الهدف ويشاؤونه معطى جوهريًّا يستندون عليه لقلب موازين القوى إن قدروا، ويطلّون منه على وجه التحديد لضرب "حزب الله" ومن خلاله ضرب أسس الاتفاق الإيرانيّ-الأميركيّ، وهو على ما يبدو قد أمسى ثابتًا بحجمه السياسيّ والأمنيّ والعقيديّ في هذا المدى.

أمام هذا المشهد واستنادًا للتجارب التي خيضت مع الإسرائيليين، وهي طويلة ومريرة، ليس حميدًا استعجال الردود من أنّى صدرت. فهي بإمكانها أن تكون المقدّمة العميقة، والمادّة الجوهريّة من حيث لا يدري مطلقوها، لبحث إسرائيليّ طويل للانقضاض على محتوى المشهد الحالي.

كلّ القضيّة أنّ المعركة استراتيجيّة ووجوديّة ونحن في وسطها. وعلى الرغم من أنّ لبنان مدعوّ في العمق الدوليّ ليكون مستقرًّا، لكنّ ذلك لا يعفي الأفرقاء الذين يتحاورون في الداخل، من أسس التحرر من الحروفيّة السياسيّة الجامدة في المسافة الفاصلة بين الفعل وردّ الفعل. ليس الزمان معدودًا للتقوقع في دوغمائيّات تشي ببقاء الاصطفاف جامدًا وهشًّا في آن. بل هو زمان القراءات العميقة جدًّا لما شاءته إسرائيل لكلّ المقوّمات باستخدامها للأوراق التكفيريّة سواء كانت داعشيّة أو نصرويّة، ولما تظلّ تشاؤه في ظل ما يتوارد من معلومات على سيطرة داعشيّة على مسافة 4% من لبنان. هذا مسعى إسرائيليّ بكلّ ما للكلمة من معنى، يطلق هذا الحراك، يغذّيه، يساهم بإطلاقيته، وتاليًا، يقوده إلى مجموعة خروقات، تهدّد مكوّناتنا اللبنانيّة من محيط جبل الشيخ والقنيطرة وشبعا للامتداد نحو البقاع الغربيّ، واستطرادًا إلى الجنوب برمزيته وخصوصيته المذهبيّة، ويستكمل تلك الخروقات على مجمل الحدود اللبنانية السوريّة، محاولاً ربط المناطق ببعضها وصولاً إلى الساحل.

ولا بدّ من التذكير وفي هذا السياق، بسؤال طرح في بعض الدوائر اللبنانيّة: "لو نأى لبنان بنفسه في المطلق، هل كان حمى كيانه من خطورة تنظيم داعش وجبهة النصرة، والمشهد آنذاك ارتبط بعنوان كبير إسقاط نظام بشار الأسد والنظام العراقيّ بالأوراق التكفيريّة، والإيغال في العمق اللبناني في محاولة إقامة خلافة إسلامية تشمل هذا المدى بالذات؟"

وفي الواقع الظاهر، إن التبدّل في المشهد، المرتسم بتلك الإيجابيّة الملحوظة والمنظورة في العلاقة بين الأميركيين والإيرانيين يبقى جوهر الأزمة مع إسرائيل، وقد قال رئيس حكومتها بنيامين نتانياهو "لو سار كلّه مع هذا الاتفاق أمّا أنا فسأحاربه لوحدي". عمليّة القنيطرة لا تقرأ إلاّ من تلك الزاوية الشديدة الوضوح، قتال "حزب الله" في سوريا نقل الصراع من لبنان إلى سوريا لظنّه أن حماية هذا الكيان منطلقه سوريا، في حين أنّ الحرب على الإرهاب، تتطلّب من اللبنانيين العودة إلى رؤية غسان تويني العميقة حول استيلاد الأصوليات من الأصوليّة اليهوديّة لتتجّه القراءة وببعض من التصرّف إلى أن كلّ إرهاب تكفيريّ ولد من دولة إرهابيّة هي إسرائيل.

إستنادًا لهذا المفهوم، ليس "حزب الله" وحده في مواجهة إسرائيل. لبنان بكلّ مكوناته في مواجهة مع إسرائيل سواء بصورة مباشرة كما حصل في سنة 2006، أو غير مباشرة بالمواجهة المباشرة مع القوى التكفيريّة التي قام بها الجيش في طرابلس وصيدا وعرسال ورأس بعلبك. وبتأمّل بسيط، إنّ العمليّة التي نفّذها "حزب الله" بوجه إسرائيل في مزارع شبعا ردًّا على عمليّة القنيطرة تصبّ في هذه الرؤية، بل تؤكّدها في مساحة المواجهة الممتدة من سوريا إلى لبنان.

ردود الفعل التي تراكمت وإن يُخشى أن يستفيد منها الإسرائيليون في قراءتهم لواقع "حزب الله: بالعمق الداخليّ، تبقى ارتجاليّة وليست استشرافيّة، لأن الاستشراف حركة استنباط دائمة واستباق لتلك الرؤية التي بدأت تهدّد الأمن العالميّ بأسره. وان القضاء على الإرهاب في لبنان وعلى مشتله الإسرائيليّ هو الفضاء المشترك الذي فيه نتلاقى جميعنا مع الجيش اللبنانيّ في مواجهة واحدة ورؤية واحدة.