يمكن وصف فوز حزب سيريزا اليساري في اليونان بزعامة أليكسيس تسيبراس في الانتخابات البرلمانية (149 مقعداً من 300 مقعد) بالزلزال الذي هز دول الاتحاد الأوروبي لا سيما الدول المؤسسة فيه «يضع منطقة اليورو في مهب الريح وعلى طريق محفوف بالمخاطر» على حد تعبير صحيفة التليغراف البريطانية. فلأول مرة يصل إلى الحكم حزب يساري منذ 150 سنة يطرح برنامجاً يتناقض كلياً مع سياسات الترويكا الأوروبية القائمة على فرض وصفات التقشف والديون بفوائد عالية على الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي، مثل اليونان واسبانيا وايرلندا والبرتغال.

ان مثل هذه السياسات التي يعتمدها البنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية أدت إلى نتائج كارثية أفقرت اليونانيين وأضعفت اقتصادهم، وحولت اليونان إلى مجرد دولة متسولة مرتهنة لفوائد البنوك والشركات الرأسمالية الأوروبية التي تمتص أموال اليونانيين وتجعلهم يقبعون في البؤس والفقر والحرمان والبطالة، وفوز سيريزا حسب كل المعطيات لم يكن مفاجئاً فهو قد خسر في الانتخابات الماضية بفارق 3 نقاط، غير أن شعبيته بدأت تزداد بنسبة كبيرة بعد أن أدى رضوخ حكومة اليمين الوسط برئاسة انتونيس ساماراس لشروط الاستدانة المجحفة، من البنك الأوروبي وصندوق النقد الدولي، إلى نتائج كارثة تمثلت بالاتي:

ـ ارتفاع الدين إلى أرقام كبيرة تجاوز معها عتبة 321 مليار يورو، أي ما يعادل 175 بالمائة من أجمالي الناتج القومي لليونان،.

ـ حرمان الاقتصاد من اي استثمار، وبالتالي إضعاف قدرته على النهوض والخروج من حالة الجمود، والتراجع المستمرين.

ـ ازدياد الفقر، فأصبح ثلث السكان تحت خط الفقر وبلغت نسبة البطالة وسط الشباب نحو 50 بالمائة.

ـ انخفاض الأجور بنسبة 25 بالمائة

ـ رفع نسبة الضرائب.

ـ عجز الدولة عن دفع الرواتب للكثير من الموظفين حتى وصل عدد الذين لم يتقاضوا رواتبهم منذ عدة أشهر نحو 000‚500 ألف موظف.

ـ تسريح 000‚150 موظف من وظائفهم وانضمامهم إلى جيش العاطلين عن العمل.

ـ خفض معاشات التقاعد ورفع سن التقاعد.

هذه النتائج كانت في أساس صعود شعبية حزب سيريزا اليساري وفوزه في الانتخابات بهذه النسبة الكبيرة.

على أن الفوز يعكس الرغبة الجامحة لدى الشعب اليوناني بالانعتاق من سياسات الترويكا الأوروبية القائمة على اعتماد نهج النيوليبراليه المتوحشة التي استغلت أزمة اليونان، فتعمدت جره إلى فخ الاستدانة بفوائد تصل إلى 5‚5 بالمائة فيما هي استدانت من الصين بفائدة لا تتجاوز الواحد بالمائة، وهذا يؤشر إلى أن الترويكا الأوروبية لم تتعامل مع اليونان كعضو في اتحاد الأوروبي يجب مساعدته للخروج من أزمته، وإنما وجدت في ذلك فرصة ثمينة لنهب مداخيل الشعب اليوناني عبر فرض الشروط المجحفة التي تجبر حكومة اليمين اليوناني على السير في خطوات أصلاحية مؤلمة فاقمت الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية مما زاد من العجز وعدم القدرة على سداد الدين.

ويؤشر ذلك إلى أن الاتحاد الأوروبي ليس اتحاداً يقوم على تحقيق العدالة بين دولة، وإنما هو اتحاد يستهدف توفير الفرص الاقتصادية والمالية للدول القوية في هذا الاتحاد كي تهيمن على سوق دول منطقة اليورو عبر فتح الحدود والأسواق، مما يجعل اقتصادات الدول الضعيفة فريسة لغزو السلع والشركات الرأسمالية الألمانية والفرنسية على وجه الخصوص.

وإذا كانت الرأسمالية الغربية قد وجدت في استغلال أزمة اليونان وغيرها من الدول فرصة لتحقيق الأرباح التي تعوض من خلالها التراجع الذي أصاب اقتصاداتها نتيجة تباطؤ النمو الاقتصادي في بلدانها المركزية وتراجع حصتها من الناتج العالمي بفعل اشتداد المنافسة الدولية الاقتصادية فان فوز اليسار اليوناني يوجه ضربة قوية لهذه الرأسمالية الغربية ويجعل دولها المركزية في وضع مرتبك وأمام خيارين:

الخيار الأول: الرضوخ لمطالب الحكومة اليونانية الجديدة برئاسة حزب سيريزا، والتي تريد من الترويكا الأوروبية شطب القسم الأكبر من ديون اليونان، وإعادة جدولة القسم الأخر منها، والتخلي عن سياسات التقشف التي فرضتها الترويكا على اليونان مقابل إقراضه.

وفي حال وافقت الترويكا على هذه المطالب اليونانية فأنها سوف تحرم من جني المزيد من الأموال غير المشروعة من اليونان، فيما ذلك سوف يخلق حافزاً لشعوب أوروبية أخرى تعاني من الأزمة للحذو حذو اليونان في دعم أحزاب يسارية للوصول إلى السلطة والعمل على تخليصها من عبء الديون وفوائدها الباهظة وإجراءات التقشف التي تعاني منها.

الخيار الثاني: أن ترفض الترويكا الأوروبية الاستجابة لمطالب حكومة اليسار اليوناني ويندفع حزب سيريزا الحاكم إلى تنفيذ تهديده بالخروج من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ورفض تسديد الديون باعتبارها فوائد غير مشروعه، وبالتالي الاتجاه نحو روسيا والصين لطلب مساعدتهما وما يعنيه ذلك من تحول كبير ستكون له تداعياته الاقتصادية والسياسية السلبية على منطقة اليورو، والايجابية على روسيا والصين. فمنطقة اليورو ستخسر سوقاً اقتصادية مهمة بالنسبة لها ما يؤدي إلى تفاقم الركود الاقتصادي، وتراجع قيمة اليورو الذي سجل انخفاضاً حاداً مقابل الدولار في الآونة الأخيرة. أما اتجاه اليونان نحو طلب المساعدة من روسيا والصين فانه سيحقق مكاسب مشتركة، من جهة ستحصل اليونان على مساعدات بشروط غير مجحفة، وبالمقابل تحصل روسيا والصين على تسهيلات لإقامة قواعد لاساطيلها في الموانئ اليونانية عدا عن تعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري مع اليونان.

ولهذا فان كلا الخيارين سيكونان صعبين بالنسبة للترويكا الأوروبية، على ان الخيار الأول وهو التفاوض مع الحكومة اليونانية للتوصل على حل وسط قد يكون الخيار الأفضل بالنسبة للترويكا باعتباره الأوروبي الأقل خسارة.

إن التغيير الراديكالي الذي حصل في اليونان سيكون له بكل تأكيد تداعيات عديدة في الداخل الأوروبي فما حصل وسوف يحصل هو انعكاس لتفاقم أزمة الرأسمالية الغربية النابعة من التباطؤ المستمر في النمو الاقتصادي وتزايد البطالة والديون السيادية.

وهذه الأزمة مرشحة لمزيد من التفاقم في الفترة المقبلة على خلفية تقلص الهيمنة الاقتصادية الغربية نتيجة اشتداد المنافسة الاقتصادية الدولية على الأسواق العالمية والناتجة من الصعود الاقتصادي لدول البريكس، وبالتالي عدم إمكانية عودة الرأسمالية الغربية إلى ما كانت عليه من صعود وازدهار بفعل احتكارها للأسواق، وهذه التحولات تشكل دليلاً جديداً على ان عصرا لهيمنة الاقتصادية للرأسمالية الغربية قد ولى إلى غير رجعة، وان الأزمات بدأت تعصف بالدول الرأسمالية، وان العالم بات في مرحلة جديدة تتسم بالتعددية الاقتصادية ما يفرض على الغرب التأقلم مع مستوى معيشية ادنى من السابق يتناسب مع الإمكانيات الاقتصادية التي لم تعد تسمح بحياة الرفاهية والتي سادت في الماضي نتيجة سيطرة الرأسمالية الغربية على الاقتصاد العالمي واحتكارها للأسواق في ظل غياب أي منافس لها.