أعاد خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله المواجهة مع إسرائيل إلى توازنها، بعد أن كادت تتفلّت باتجاه حرب مفتوحة لا تعبّر سوى عن مغامرة إسرائيليّة حمقاء ورعناء تحاول من خلالها الضغط بالمعنى السياسيّ والأمنيّ على اتفاق أميركيّ-إيرانيّ هو قاعدة اتبعت بالمفهوم الأميركيّ الجديد للانطلاق منه نحو الحرب على الإرهاب.

حاولت إسرائيل التعويل على انفعاليّة ما قد تظهر في سلوكيّات "حزب الله" كردّة فعل على هذا الاغتيال المتعمّد. هي لم تقصد أن تغتال تلك المجموعة لأجل الاغتيال، ولكنّها شاءت إحراق الساحة من جديد، وفتح ثغرة وكوّة بين منطقة القنيطرة وشبعا والبقاع الغربيّ، ليتسلّل منها مسلحو "جبهة النصرة"، باتجاه المكونات كلّها، ومن البقاع الغربيّ إلى الجنوب، وهذا هو سبب وجود مقاتلي "حزب الله" الّذين سقطوا في القنيطرة في جولة الاستطلاع التي كانوا يقومون بها. تلك كانت خطّة إسرائيل في حقيقتها وشموليّتها وهي تستهلك من ولدوا من صلبها، أي المنظمات التكفيريّة لترميد مثلّث لبنان-سوريا-العراق، والانقضاض بهذا الترميد على مصطلح العروبة بجوهرها المسيحيّ-الإسلاميّ، وهو فضاء التلاقي بينهما. وقد ذكّر السيد نصرالله به كحالة وجوديّة وضروريّة في مساحة الصراع مع إسرائيل ومع القوى التكفيريّة بعد نعيه جامعة الدول العربيّة. ومن ثمّ، فإنّ الترميد من شأنه أن يقود، وهنا بيت القصيد، إلى دفن فلسطين جرح الوجود، بحقّها ووجودها وناسها في وادي النسيان. فهي تظلّ وتبقى قضية القضايا عند المسيحيين والمسلمين على السواء. وينتج من ذلك فرض "جبهة النصرة" و"داعش" فريقين أساسيين بالإزاء مع الدولة، في لحظات التسوية، إذا حصلت، لتكون لها الحصة الكبرى في الحكم. وكما أنّ "جبهة النصرة" تحوّلت إلى شريط حدوديّ حامٍ للإسرائيليين، فإنّها وبالرؤية الإسرائيليّة بإمكانها أن تكون مطلاًّ لها في لحظات التفاوض أو الوصول إلى الحكم. هذا ما هي تفترضه في الصراع الحالي الدائر في سوريا والعراق، وهذا ما يأباه الحزب في صراعه وبخاصّة بعد تغيّر المشهد العام من مشهد دوليّ حاضن للإرهاب إلى مشهد محارب له.

في خضّم ذلك، وبعد ردّ "حزب الله" في مزارع شبعا، أطّل الأمين العام بكلام واضح، ليقول للإسرائيليين ما يلي: "بعد عمليّة شهداء القنيطرة، أريد أن أكون واضحًا، أننا في المقاومة لم يعد يعنينا أيّ شيء اسمه قواعد الاشتباك، ولا في مواجهة العدوان والاغتيال، ولم نعد نعترف بتفكيك الساحات والميادين، ومن حقّنا الشرعيّ والقانونيّ أن نواجه العدوان أيًّا كان هذا العدوان، وفي أيّ مكان وأي زمان". تنطلق من هذا الكلام عينًا قواعد استراتيجيّة جديدة، بشروط تحدّد معايير التوازن في الصراع مع إسرائيل، وهي متفلّتة من الزمان والمكان، بعدما اختارت إسرائيل اغتيال المجموعة على الأراضي السوريّة. تلك القواعد التي شاءها السيّد في خطابه، ما خلت في أساسها من جوهر البحث الطويل عن معنى وجود إسرائيل وحضورها الهشّ والمعطوب بالعقد التاريخيّة. البحث متكامل الوجوه والعناصر، وأهمّ عنصر فيه، أنّ الموت عنده عبثيّ، بعكس "حزب الله" أليف الشهادة، وتلك مفارقة يجب لحظها في الصراع وقد استند عليها السيد نصرالله للتمييز بين قوتين، قوّة تذهب إلى الموت بإرادتها لعشقها الحياة، وأخرى تخشى من الموت لكونه النهاية المطلقة.

ما يهمّ أيضًا في سياق الخطاب، أنّ السيد نصرالله أوصل رسالة، تقوم على امتزاج الدم السوريّ بالدم اللبنانيّ وصولاً إلى الدم الإيرانيّ. كلامٌ كهذا ينبغي أن يُنظَر إليه بأطر مختلفة عن الأطر التي سادت في علاقة لبنان وسوريا وإيران في حقبة ما بعد الطائف. امتزاج الدماء يعني وحدانيّة المواجهة أمام كسر الحدود بين الدول، بإرهاب تكفيريّ لا يعترف بها، ومصدره إسرائيل. في الأساس إن الأخيرة هي التي كسرت قواعد الاشتباك منذ سنة 2011، أي منذ انطلاق شرارة الأحداث الأولى في سوريا، وبخاصّة تلك القواعد المرسومة في الجولان، أو التي نشأت بعد حربها على لبنان سنة 2006 حيث يعنى بها القرار 1701، وازداد ذلك وضوحًا حين أفرزت ألغامها التكفيريّة في هذه الحرب من البوابة التركيّة والبوابة الخليجيّة وبدعم أميركيّ. من هنا، إنّ ذهاب "حزب الله" إلى القتال في سوريا استراتيجيّ بامتياز واستشرافيّ بحقّ لما يمكن أن تحدثه إسرائيل من فجوات خطيرة بإنتاجها تلك الحركات وزرعها ما بين سوريا ولبنان والعراق. وفي بعد آخر متّصل، فإنّ "حزب الله" في سوريا، في القنيطرة وريف دمشق وصولاً إلى القلمون وحمص، يقاتل ظاهريًّا التكفيريين، ولكنّه فعليًّا يقاتل إسرائيل، وهذا ما تدركه هي، وهذا العنوان بالإضافة إلى العنوان الاستراتيجي المذكور سابقًا هو أحد أسباب اغتيال مقاتلي الحزب في القنيطرة.

وبالعودة إلى الخطاب، يجدر التوقّف واستكمالاً للإضاءة عليه والإحاطة بمعانيه، أمام معادلة واضحة أعلن فيها السيّد ما يلي: "سمعنا أنّ الإسرائيلي يريد أن يبلع تلك العمليّة التي حصلت في شبعا وأنّه اكتفى بما قام به، لكن نحن نفهم أنّ الإسرائيليّ يهرب من المواجهة العسكريّة وسيذهب للبحث عن الشباب الذين أذلّوه يوم الأربعاء من أجل اغتيالهم. وبناء عليه، نحن في الماضي كنّا نميّز بين الاغتيال والعمل العسكريّ، ونردّ على أيّ عمل عسكريّ. أمّا عندما يكون هنالك اغتيال أمنيّ نتريّث. لكن من الآن، أيّ كادر من كوادر المقاومة، أو أي شاب يغتال سنتّهم الإسرائيليّ، وسنعتبر أن من حقّنا أن نردّ في الطريقة والزمان المناسبين". وفي التدقيق لهذا الكلام، يتّضح أنّ المواجهة تحرّرت فعليًّا من القرار 1701 على الرغم من احترام الحزب له في ردّه في مزارع شبعا التي لا تنطبق عليها مفاعيله. ويأتي قرار التحرّر بفعل اختراق إسرائيل للحدود مع سوريا واغتيالها للشباب بعملية واضحة الأهداف والتوجهات.

يسوغ الاستنتاج هنا، بأنّ التحرّر من هذا القرار أعاد لبنان إلى توازن تحاول إسرائيل كسره في البحث عن حرب تقلب بها الموازين والمعايير، هنا وقف السيد نصرالله من جديد، ليعلن بأنّ "حزب الله" لا يريد الحرب، ولكن إن فرضت عليه فهو لها حتى يتحقّق النصر.

لقد تبيّن من كلّ ذلك، أن الحزب الذي لم ينهك في المواجهة سوريًّا يملك القدرة على مواجهة إسرائيل، وقد أظهرها في عمليّة الرد المباشر من مزارع شبعا، إذ إن المواجهة واحدة.

خطاب السيد حسن نصرالله، أعاد الاعتبار لمفهوم التوازن في مواجهة مفتوحة تحت عنوان شامل وهو "الحرب على الإرهاب"، وعبوره من باب تفاهم أميركيّ-إيرانيّ وروسيّ يكرّس مفهوم التوازن من سوريا إلى العراق فلبنان.