هجس بيان ​المطارنة الموارنة​ المنعقد في بكركي يوم الجمعة بتاريخ 20-02-2015، بمسألة عدم انتخاب رئيس للجمهوريّة، وأسفوا لتخلّف المجلس النيابيّ عن انتخابه كما يوجب عليه الدستور، وشبّه واقع الحكومة بالآبار المشقّقة التي لا ينفع معها أيّ علاج.. وبلغ الذروة في التوصيف بهذا القول: "وما البحث عن مخارج، بعيدًا عن انتخاب رئيس، سوى أخذ للبلاد إلى مستقبل مجهول على صعيد النظام السياسيّ، وإلى تفاقم الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة والاجتماعيّة فضلاً عن تهديدات الأوضاع الأمنيّة". ويأتي بيان المطارنة فورًا بعد عودة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي من الفاتيكان، خارج سياق موعد اجتماعهم الشهريّ، والذي يفترض أن يكون الأربعاء، وقد كان بإمكان البطريرك تأجيل الاجتماع إلى الأربعاء المقبل لريثما تهدأ العاصفة الطبيعيّة، ممّا طرح تساؤلاً عند عدد كبير من الأوساط، هل البيان تمتمة فاتيكانيّة بلسان بطريركيّ، أي إرادة فاتيكانية مباشرة، استقرأت التداعيات الناتجة من عدم انتخاب رئيس للجمهوريّة، والمتأتيّة من فشل مدير دائرة الشرق الاوسط وشمال افريقيا في الخارجية الفرنسية جان فرنسوا جيرو في محادثاته مع الأطراف المعنيّة، والمتجانسة مع المشهد العام في المنطقة، وهو مشهد الانقضاض أو محاولة الانقضاض على مفهوم الدولة في البلدان المحيطة بلبنان بدءًا من سوريا ومصر وليبيا...

أوساط سياسيّة وصّفت البيان بأنه فاتيكانيّ خشي فيه الفاتيكان على ذوبان الكيان اللبنانيّ، ليس ككيان يعبّر عن ذاته بهويّته ومؤسساته، ولكن ككيان يعبّر فيه المسيحيون عن آخر موقع لهم في المشرق العربيّ، بعد سلخهم عن أرضهم في العراق، ومحاولة اقتلاعهم في سوريا والاعتداءات المتكررة على أقباط مصر، كان آخرها ذبح 21 قبطيًّا مصريًّا في ليبيا. بالتوصيف الفاتيكانيّ الدقيق، هناك خشية على "لبنان المسيحيّ" بالدرجة الأولى، ولبنان الرسالة بمسيحيّيه ومسلميه بالدرجة الثانية الموازية للدرجة الأولى.

ما هو "لبنان المسيحيّ" بالتوصيف الدقيق وبالمعيار الفاتيكانيّ والمارونيّ والمشرقيّ إستطرادًا؟ لا يقصد "بلبنان المسيحيّ" بالكيان المغلق النامي سابقًا من أطروحات وجدت في الحرب الأخيرة، والمكوّنة من المارونيّة السياسيّة المغلقة منعًا لأيّ التباس، إنما هو الوجود المسيحيّ الذي كوّن لبنان الكبير به سنة 1920، كما كوّن لبنان الصغير به أي متصرفيّة جبل لبنان سنة 1861. وقد لاحظ بعض المفكريّن منذ هذا التكوين، بأنّ هذا "اللبنان المسيحيّ" لو لم يكن، لما نشأ بعد ذلك لبنان المسيحيّ-الإسلاميّ، لما كتب دستور 1926، واستتبع سنة 1943 بالميثاق الذي حقّق ذلك التوازن في إطار المناصفة، وفي إطار دمج المسيحيين والمسلمين بالسياق العروبيّ، والذي هو في أصله ما كان غريبًا عن "لبنان المسيحي"، بل ما كان نافرًا أن يبدو "لبنان المسيحيّ"، مأخوذًا إلى سياق مختلف لا ينتمي إلى تلك الجذور الحقيقيّة، والمكنونة في قلبه وعقله.

بمعنى آخر إن حتميّة وجود لبنان المسيحيّ، أدّى إلى وجود لبنان الإسلاميّ، واللبنانان هما واحد في هذا الإطار الميثاقيّ الجامع، ودائم الحضور بالصفة المتجسّدة على الأرض. غير أنّ الخشية تتبلور أكثر فأكثر على لبنان المسيحيّ في البعد الأشمل لكون وجود المسيحيين فيه يؤكّد ضرورة وجود المسلمين، فماذا ينفع المسلمين إذا همّش المسيحيون واستبعدوا وهجّروا فيما حرب المنظمات التكفيريّة وإن استفحلت على هذا الحضور بالذات لكونه آخر المعاقل المتحررة والمتفاعلة في المشرق، ولكنها متعاظمة وشرسة بحربها على الإسلام القرآنيّ الذي إن تلاقى والمسيحيّة المشرقية وهما متلاقيان يؤلّفان معًا هذا الكيان الفريد.

بعد ذبح الأقباط في ليبيا وتهجير المسيحيين من العراق والتعرّض لمسيحيي سوريا، بات من الضروري وكما أشار بيان المطارنة الموارنة (بيان فاتيكاني بعمقه وسياقه)، الحفاظ على هذا اللبنان بالذات من زاوية الانتخابات الرئاسيّة ومن زاوية الحفاظ على الوجود المسيحيّ اللبنانيّ بصفته الوجود "الحامي" للمسيحيين العرب، من سوريا إلى مصر ومن العراق إلى الأردن، وما تبقّى من فلسطين. والحفاظ على الوجود المسيحيّ يؤكّد بدوره فرادة لبنان بتكوينه ونظامه في اللقاء المسيحيّ-الإسلامي وديمومته.

وفي سياق متصل، تذهب بعض الأوساط بعيدًا عن الاصطفاف الإقليميّ والعربيّ المحيط بلبنان، إلى وضع خيارات واضحة بتقدير دقيق لنتيجة كلّ خيار، هذا إذا تم التوافق على لبننة الاستحقاق. من الحيارات التي يتم التداول بها عن معنى الرئيس التوافقيّ. تؤكّد بعض هذه الأوساط إلى أن الرئيس التوافقي هو الضبابيّ الخالي من اللون، أي الرئيس الفاتر الذي يتقيأه الكيان من جوفه. لم تكن تجربة الرئيس التوافقيّ محمودة على الإطلاق، في الحراك السياسيّ التواصليّ. والنتيجة كانت شبه معدومة بسبب تقاطع كلّ المصالح ليس الداخلية فحسب بل الإقليمية والدولية في ذاته، فهو مستولد من رحمها كما حصل في اتفاق الدوحة الأخير سنة 2008. فاتسمت تلك المرحلة الخطيرة بغياب القرار على المستوى المسيحيّ وعلى المستوى اللبنانيّ. ذلك إن تشديد بعضهم على رئيس توافقيّ من شأنه تمييع الدور المسيحيّ في إطاره المتوازن والمتآزر بالإزائيّة مع المكوّنات الأخرى. كما شأنه أيضًا تمييع المؤسسات السياسيّة والأمنيّة، والتمييع أدى ببعض مندرجاته إلى نتائج خطرة في الحرب مع التكفيريين. وفي الوقت عينه، تؤكّد الأوساط نفسها بأن الرئيس القويّ الذي يمثّل الوجدان المسيحيّ بأكثريته المطلقة من شأنه أن يحمي المؤسّسات من هذا التمييع المتعمّد، ويقودها إلى التمتّع بالحصانة والقوّة والمنعة، كما يساهم بتقوية المسيحيين في حضورهم يضمن اندراجهم بكفاءاتهم في كلّ مواقع الدولة وإداراتها، وهو الضامن لتحرير المناصفة من هشاشتها ومعطوبيّتها وإعادتها إلى صلابتها الميثاقيّة في إطار من الطائفيّة المتوازنة وليس الطائفيّة الفوضويّة والمتلاشيّة، والتي تبقي المسيحيين دائمي الاستيلاد في كتف الكيانات الأخرى.

إنّ بعض المعلومات المتوافرة تشير إلى أنّ الفاتيكان مع البابا فرنسيس الأوّل بات مقتنعًا بحتميّة إعادة الاعتبار إلى دور المسيحيين في لبنان من زاوية انتخاب رئيس قويّ يمثّل المسيحيين، نظرًا إلى الأخطار الهائلة التي يتعرضون لها في المشرق، وهذا كان فحوى لقائه الأخير مع البطريرك الراعي. والحوار الدائر بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانيّة، بحسب ما توافر من رؤى، والذي توصّل إلى ورقة إعلان مبادئ كما سمّاها الطرفان، مدرك بالعمق للخطر الوجوديّ، لكنّ عدم التوصّل إلى حسم مسألة الرئاسة وانتخاب الرئيس، لا يزال مرتبطًا بالرهانات على النتائج الميدانيّة في سوريا، وتاليًا على ما يمكن أن تصل إليه العلاقات الإيرانيّة-السعوديّة بعد أحداث اليمن وما سينتج عنها من تغييرات جذريّة على مستوى المنطقة. ولذلك لا يزال موضوع الاستحقاق موجّلاً.

وفي النهاية، تنصح بعض الأوساط بضرورة حسم مسألة الرئاسة ليس بنظرية الاستدلال عليها من الأحداث، ولكن باللبننة الكاملة والمَسْحَنَة الضروريّة قبل الربيع المقبل حفاظًا على لبنان وعلى المسيحيين فيه.