الوجع آشوري هذه المرّة. لا يهمّ طالما أن زمن الآلام بتقويميْه الغربي والشرقي مزدوج. فبعد أقباط مصر الـ21 الذين جعلوا بدمائهم للعرب بحرين أحمرين، وقبلهم راهبات معلولا اللواتي ذقن طعم الأسر ومسيحيو الموصل الذين غدوا في بلاد الشتات، حان دور أكثر من 90 آشوريًا من الحسكة السورية ليكونوا أبطال حكاية جديدة من الأسر التي سرعان ما ستجرّ معها فصلاً جديدًا من فصول النزف المسيحي المتجدد مع مغادرة أكثر من 5 آلاف آشوري الشمال السوري في غضون ساعات.

فعلها تنظيم “داعش” مجددًا. ضرب على وترٍ مسيحيٍّ آخر. جعل كنيسةً مشرقيّة أخرى تتضرّع لسيّدها المخلّص لينقذ أبناءها من فصل “تفنّني” جديد في إنهاء حياتهم. جعل المزيد من الآلاف يبحثون عن حدودٍ لا تفرض عليهم تأشيراتٍ ليفرّوا الى داخلها. حدود كاد لبنان يكون من ضمنها بعد قرار فرض تأشيرات على عبور السوريين أخيراً لو لم يتدخّل وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق شخصيًا من مصر ليل أمس ليتابع هذا الملف وليستجيب لصرخة الكنيسة الآشورية. ففي معلوماتٍ خاصّة لـ “​صدى البلد​” اتصل المشنوق ليلاً من مصر بالمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم وأعطى تعليماته بتسهيل دخول الآشوريين الهاربين الى لبنان.

قرى للأشباح

ليس الوجود الآشوري في المنطقة وليد اليوم أو الأمس القريب. ورغم أن سورية لم تشهد انتقالهم اليها إلا منذ 82 عامًا (في العام 1933)، بقيت طقوسهم مذيلةً بحضارةٍ مسيحيّة لم تعرف الطمأنينة يومًا لا في عراقها النازف ولا حتى في سورياها التي كانت ملاذهم الأكثر أمانًا قبل صعود الحركات المتشددة. وفي هذا الإطار، يؤكد وكيل رئيس الطائفة الآشورية في لبنان الخوراسقف يكروم كوليانا لـ “صدى البلد” أن “سورية كانت تحتضن قرابة 35 قرية آشورية على ضفاف نهر خابور في ريف الحسكة، وفي مدينة الحسكة نفسها قرابة 500 بيت آشوري وهو ما جعل أعداد الآشوريين في محافظة الحسكة تلامس 25 ألفًا. اليوم هذه القرى باتت قرى للأشباح بعدما دخلها عناصر “داعش” ومنها قرية يحاصرون فيها ما يناهز 50 عائلة، وقرية أخرى لا نعرف عن أهلها شيئًا. كما عمدوا الى إحراق عدد من الكنائس وقتل مواطنين آشوريين لا نعرف أعدادهم لصعوبة الدخول الى بعض القرى المحاصرة”. وشدد كوليانا على “أننا نتواصل ساعةً بساعة مع شبابنا الآشوريين في سورية من خلال مطرانية كنيسة المشرق الآشورية، ويؤكد هؤلاء أن ما يعيشونه مأساة حقيقية، وعدد عناصر “داعش” كبير جدًا لا يمكن التصدّي له، وحتى لا يمكن التفاوض معهم”.

الغرب يخذل...

هي خشيةٌ لا تفارق قلوب الآشوريين في لبنان والمشرق من أن يلقى أبناء كنيستهم التسعون مصير أبناء الكنيسة القبطية. ويشدد كوليانا في هذا المضمار على أن “الأخبار الآتية من سورية تشير الى أن المخطوفين قد يلقون مصير إخوتهم الأقباط في حال لم يتمّ دفع فدية لم يُفصح “داعش” عن تفاصيلها بعد، علمًا أنها تشمل كلّ شخص على حدة. ولكن تجربة الطيار الأردني غير مشجّعة إذ إن التنظيم المتطرف طالب بفدية لقاء الإفراج عنه وفي نهاية المطاف تمّ حرقه. لذا لا يمكننا أن نعرف حقيقة نيته في التفاوض من عدمها”. وما إذا كانت الكنيسة الآشورية على تواصل مع جهاتٍ دولية لطلب النجدة قال كوليانا: “ما لمسناه من طريقة التعاطي الدولية إزاء مجزرة الأقلية الإيزيديّة لا يجعلنا نعوّل على أي حراك دولي فاعل، لذا يبقى دعاؤنا وصوتنا ووجهنا الى الله لأنه القادر وحده على مساعدتنا والرأفة بنا”. وأردف: “نحن اليوم في زمن الصوم نسير درب الجلجلة نفسه الذي مشى عليه السيد المسيح”. وشدد على أن “الله عندما خلق آدم أوجدنا بشراً بلا تفرقة، لذا نطالب كلّ العالم بالتعامل معنا كبشر”.

معضلة الحدود اللبنانية...

وما إذا كانت عائلاتٌ آشورية نزحت الى لبنان في الساعات الـ48 الأخيرة يؤكد كوليانا أن “اليومين الأخيرين ما بعد الخطف لم يشهدا نزوحًا آشوريًا أغلب الظن بسبب الإجراءات الأخيرة على الحدود اللبنانية، ولكن لبنان يحتضن منذ بدء الأزمة السورية حتى شهر خلا ما يقارب 1300 عائلة. اليوم حكمًا لدى الكثيرين نية بالنزوح الى لبنان ولكن هل ستسمح لهم الحكومة اللبنانية بعبور الحدود بلا تعقيدات؟ هؤلاء الآشوريون يعلمون خير علم أن لبنان هو ملجؤهم الأخير بيد أن المعايير الجديدة لدخول السوريين الى لبنان تحول دول ذلك رغم أن هذه الحالة إنسانية بامتياز”. وعلمت “صدى البلد” في هذا السياق أن “وفدًا من الكنيسة الآشورية سيزور اللواء عباس ابراهيم صباح غد ليناقش معه آلية دخول الآشوريين الى لبنان والتسهيلات الممنوحة لهم، ناهيك عن بحث حلول لمعضلة الإقامات بغية تجديدها لآشوريي لبنان خصوصًا في ظلّ صعوبة حصولهم على كفلاء. لذا ستقترح الكنيسة الآشورية تقديم نموذج خاصٍّ بها يكون عبارة عن مستند رسمي تعلن فيه بأنها تكفل الآشوريين الذين لا يخلون بأدبيات لجوئهم في لبنان”.

خشية عودة “إبريق الزيت”

ذاك التردد الآشوري في عبور الحدود الى لبنان هربًا من وحشيّة “داعش” يقود الى سؤال جوهري سبق تحرّك المشنوق الليلي: أتُدرج الحكومة استثناءً يسهّل مرور هؤلاء تحت عنوان “لأسبابٍ إنسانية”؟ حتى ساعات المساء الأولى بدا أن الأزمة الآشورية بعيدة من حسابات الحكومة خصوصًا أنها لم تطرق أبواب أيٍّ من الوزارات المعنية وبالتالي كان صعبًا على أيّ وزارة أن تقول “فول” قبل أن “يصير بالمكيول” أي قبل أن تبدأ الحالات بالتوافد الى الحدود البقاعية. بيد أن تدخّل المشنوق ليلاً، ورغم هواجس الكثيرين من أن يغدو الاستثناء قاعدة وأن تتفاوت معاييره وأسبابه وحالاته، قلب المقاييس وعاد ليُثلج قلب الكنيسة التي ستنقل الكلمة الى أبنائها في سورية الراغبين في اللجوء الى لبنان رغم شكّ الكثيرين بأن تكون أعدادهم كبيرة نظرًا الى البُعد الجغرافي الذي يجعل عبورهم الى دولٍ مجاورة للشمال أكثر سهولةً، ناهيك عن صعوبة قطع المسافات مرورًا بقرى يحاصرها “داعش” وصولاً الى دمشق ومنها الى لبنان. ومع ذلك، كلّ نازحٍ يحمل على هويته عبارة “آشوري” وعلى جبينه صفة “الهروب من الاضطهاد” ستكون الحدود اللبنانية أكثر رأفةً معه من بقائه في قريته المحاصرة أو من انتقاله من وجع التشدد الى ذلّ المخيمات الشماليّة.

فوضى الهواجس

هو الزمن الذي تسابقه الأقلية الآشورية في سورية خشية أن يكون مصيرها “العزل” في أحد الجبال النائية كذاك الذي قاسته نظيرتها الإيزيدية، هذا إن لم يكن فيديو للتنظيم المتطرف أسرع من أي مفاوضات أو فدية... أيًا تكن الحالة يبقى الثابت الوحيد أن الدرب الذي سيمشيه هؤلاء ليس بعيدًا – جغرافيًا ورمزيًا- من جبل الجلجلة المشرقي.