في مثل هذه الايام من كل سنة، تدعو وزارة الداخلية والبلديات المواطنين والمواطنات الى الاطلاع على "القوائم الانتخابية"، تمهيدا لتنقيحها، وصولا الى تجميدها، لتكون جاهزة لأي استحقاق انتخابي آت. هذا التدبير هو اجراء سنوي روتيني وإنما يتعاظم الاهتمام به عشية الانتخابات العامة. الا ان هذه باتت حديثاً بالنسبة الى البعض، خاصة جدا، فدخلت في سبات عميق، حتى إشعار اقليمي آخر. اما القوائم، فمنقحة، منقحة...

والحال أن تنقيح القوائم يوحي بأن حركة الحياة في البلد مستمرة.: المتوفون يشطبون والراشدون انتخابيا يُدرجون والمتزوجات يُنقلن بالنفوس والنصوص والمحكومين بالتجريد يضرسون... أما بعد...

بين تنقيح القوائم (جمع قائمة، وتعني اللوائح، ولا علاقة لها بالأرجل وما شابه) وتنقيح الذاكرة، مسافات من الاخطاء والنسيان وما بينهما من شرخ وهوّة وبُعد وانفصام. مسافات تفصل بين ما يجب ان تكون عليه دورية الانتخابات، مثلا، وما آلت اليه امورنا التمديدية.

هنا، وزارة تقوم بواجباتها فتنشر القوائم، وهناك، حالة سياسية تنشر الإحباط في الاوادم (جمع بني آدم، وتشمل النساء احتراما للجندرة).

هنا، قانون يحترم الدستور وما يحيل عليه من مواثيق دولية تقول بضرورة استفتاء الناس دوريا، وهناك، قانون آخر استثنائي يذكّر بقوانين الطوارئ التي درجت في شرقنا تحت عنوان ان "لا صوت يعلو صوت المعركة". واما المعركة فمستمرة وكذلك قوافل الضحايا.

في هذا المشهد، يقف لبناني عتيق في لبنانيته، أرهقته معارك الشرق والغرب وأنهكته نظرية المؤامرة وضجّ بأسطوانة سايكس – بيكو وخذلته وعود ما قبل التنقيح ليستفيق على وحول متحركة تشدّ به نزولاً الى قعر القعر.

هذا اللبناني العتيق، فقد الكثير: استقراره، أمنه، عمله، دخله، راحة البال، مستقبل الأولاد، البطاقة الصحية، شيخوخته غير المضمونة، واحيانا بيته اللبناني بمنازل كثيرة... فقد لذة العيش كريماً ودخل، غير طائع ولا مختار، نادي الزبائنية منتسباً اليه مدى الحياة، او ما تبقى منها... لكن ثمة امراً لم يفقده ولو غاب حينا وغُيّب احيانا: ذاكرته وذاكرة البلد. ففي زمن المتغيرات المتلاحقة، هناك من يريدنا ان نصدق ان كل شيء قابل للانهيار وان حركة التاريخ تسير دائما لمصلحة المتسلط بقوة بطشه. هناك من يريدنا ان نصدق ان تاريخنا كذبة وان صمود اجدادنا اسطورة وان تضحيات امهاتنا شعر وهباء منثور. هذا اللبناني العتيق يحمل في جيناته ذاكرة جماعية لا بد من تنقيحها هي ايضا والزمن زمن انتخابات... غير نيابية. هو زمن الاقتراع لمشروع الدولة التي تحمي تاريخاً وجغرافيا، تحمي مواطنين، لا رعايا. هو زمن الاقتراع لخيارات انسانية جامعة بمواجهة الذبح والحرق والتدمير. هو زمن المقاومة بالعين التي تواجه المخرز. هو زمن الاقتراع بنعم او لا، مع الجيش او ضده ولا رمادية ولا خيار ثالث... وهو زمن اللحظات الحاسمة التي تُدخل القياديين الى كتب التاريخ مكلّلين أو تُخرج شعوباً من خرائط الجغرافيا محطمين. تنقيح الذاكرة ينبغي ان يكون، هو ايضا، تدبيرا روتينيا سنويا، علّنا ندرك بذلك ان قوائم الشرفاء المناضلين تَلفظ، على حين تنقيح، ناس جبران خليل جبران الذين "يرتعشون امام عاصفة الحياة فتظنهم احياء وهم اموات منذ الولادة ولكنهم لم يجدوا من يدفنهم"، كما تَلفظ هذه القوائم المحكومين المجرّدين من وطنيتهم، وتُدخل اليها شباب الرشد السياسي والقلب النابض ونساء النفوس الطيبة والعقل الراشد. ولتكن بعدها انتخابات...