كشفت الأحداث الأخيرة في المناطق والقرى الأشوريّة المسيحيّة في الحسكة، وبخاصّة في شرق نهر الخابور، هشاشتين واضحتين:

- الأولى مسيحيّة أشوريّة خاصّة بأولئك الذين استكانوا في لحظة من اللحظات إلى معارضة أثبتت هزالها وعدم القدرة على الحماية بسبب فقدانها الأرضيّة الواقعيّة بالعمق السياسيّ الأمنيّ، وهو سببٌ لعدم امتلاكها الأرضَ، وتوظيفُ هذا الامتلاك في اكتساب مقوّمات الوجود. فعبّرت الاستكانة عن رهانات جوفاء وخاطئة لم تؤت في الواقع ثمارها. ومن الأمور التي بدت نافرة عند بعض من نطق باسم أولئك المضطهَدين، بكل ما تعنيه كلمة اضطهاد من معنى، عدم تحلّيهم وتجلّيهم بقراءات استراتيجيّة وتحليليّة واقعيّة، تؤهّلهم لتكوين صورة جديدة تستنبط تاريخهم المشرقيّ العريق، وتؤدّي إلى ثباتهم بأرض آبائهم وأجدادهم. لقد تعثّر بعضهم في محاولات التوليف بين النقائض، لظنّه أنها عمليّة تخدمه وتعينه على البقاء. في حين أنها هشّمتها وهمّشتها واقعيّة الأحداث في هذا المثلّث المحترق جدًّا ما بين سوريا وتركيا والعراق. إذ بعد التهميش والتهشيم، استعرت الأمور لتكشف ذلك الدور التركيّ الواضح والجليّ في تعطيل التواصل ما بين تلك الطائفة الكريمة ومحيطها السوريّ الطبيعيّ، فاستعملت منطق التعطيل لإباحة انقضاض داعشيّ صادم وقاتل، أدى إلى زوال المسيحيين وإبادتهم، كما أبادوا الأرمن في أرمينيا. والدور التركيّ يوظّف داعش وسواها بغية البلوغ نحو النيو-عثمانيّة التي طمح لها رجب طيب أردوغان منذ أن وصل إلى سدّة رئاسة الحكومة بالتقاطع مع المصالح الإسرائيليّة.

لقد كان بإمكان مسيحيي الحسكة، أن يستذكروا أنّهم جزء من هذا المحيط السوريّ، كما استذكر أهل وادي النصارى وصيدنايا ومعلولا ومحردة وكسب، وكما استذكر أيضًا أهل رأس بعلبك وسواها من القرى المسيحيّة أنهم جزء من هذا المحيط اللبنانيّ المتشظّي كما المحيط السوريّ من هجمات "داعش" و"جبهة النصرة" ووحشيّتهما، الذين استبسلوا في القتال العنيف، واستشرسوا في منع أولئك من دخول قراهم ومدنهم. لم يثبت هؤلاء كما أهل نينوى والموصل في العراق، قدرة على الثبات والتحفّز للبقاء، على عكس الأكراد الذين أثبتوا قدرة فائقة على القتال في عين عرب (كوباني) فقاتلوا وانتصروا، وهم إيّاهم يقاتلون اليوم الداعشيين مؤازرين الأشوريين، فيما القرى الأشورية شرق نهر الخابور تنهار الواحدة تلو الأخرى.

- الثانية مسيحية لبنانيّة، تمثّلت في فقدان القدرة على احتضان قضيّة المسيحيين العرب بصورة عامّة. ذلك أن الانقسام البنيويّ السّائد في المدى المسيحيّ اللبنانيّ، وهو استراتيجيّ في اتجاهه العموديّ، أخلى المسيحيين من تلك الهالة المضيئة التي تمتّعوا بها بشهادة كبار من المسيحيين العرب من سوريا إلى مصر خلال القرن العشرين. وفي هذا السّياق لفت مرجع سياسيّ النظر إلى "أنّ الخطر غير بعيد عن المسيحيين في لبنان، وهو وجوديّ بالكامل". وفيما أبدى تفاؤله بنجاح الحوار بين الفريقين المسيحيين الأوسع تمثيلاً، دعاهما "إلى حركة تصاعديّة في الحوار باتجاه عناوين رئيسية تختصّ بمقاربة سوبر-وجوديّة للواقع في سوريا وانعكاس هذا الواقع على لبنان الميثاق، بمعنييه ومحتوييه المسيحيّ والإسلاميّ". ذلك أن إبادة المسيحيين بالطرائق الوحشيّة من العراق إلى سوريا، ومحاولة الانقضاض على النظام السوريّ بهويّته الحاليّة، ستستتبع حتمًا بانقضاض على معنى وجود لبنان المسيحيّ كشرط لوجود لبنان الإسلاميّ ولبنان المسيحيّ-الإسلاميّ. وقد استند المرجع إلى المنهجين الاستقرائيّ والاستنباطيّ في مقاربته العناوين، ليشير بأن ضمان وجود المسيحيين في لبنان وامتداده إلى سوريا والعراق والأردن وفلسطين، يتأتّى من اتفاقهم في الداخل اللبنانيّ، وهو العنوان الأوّل، على رئيس يمثّل الشريحة الواسعة من المسيحيين، ويكون مطلاً ليس للمسيحيين اللبنانيين بل للمسيحيين العرب في أزماتهم الحادّة، لكونه المخوَّلَ بما يمثّل من ثقل وحضور للكلام باسمهم في المحافل الدوليّة والعربيّة، كما تكلّم رئيس جمهوريّة لبنان المارونيّ كميل شمعون ومن ثمّ سليمان فرنجيّة، ووزير خارجيّة لبنان الأرثوذكسيّ شارل مالك في الأمم المتحدة باسم الفلسطينيين مدافعين عنهم وعن القضيّة الفلسطينيّة، كجرح مسيحيّ-إسلاميّ على السواء".

وذهب المرجع المذكور بتوصيف علاقة بعض المسيحيين في لبنان المتوتّرة بالواقع السوريّ وهو العنوان الثاني، ليلفت النظر، "بأنّ مقاربة بعضهم الشديدة التوتّر في هذه الظروف تحتاج إلى المزيد من الصفاء بعيدًا عن الشعارات الطنّانة والرهانات الجوفاء، التي لا تخدم الحضور المسيحيّ في سوريا ولبنان، ولا في العالم العربيّ-المشرقيّ. والصفاء من شأنه أن يشعّ من مقاربة عقلانيّة لإشكاليّة العلاقة بالغرب، وهي إشكاليّة جدليّة وحامية في سياقها السلبيّ، حيث نأى هذا الغرب بكليّته عن المجازر التي ارتكبت وترتكب بحقّ المسيحيين في العراق وسوريا سواء في سهل نينوى والموصل والآن في الحسكة"، وقد ذكّر بما قاله الرئيس الفرنسيّ السّابق نيكولا ساركوزي للبطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الراعي عن سبب بقاء المسيحيين في الشرق ولمّ لا يهاجرون؟!" وسأل" "أين هو التحالف الدوليّ وأين روسيا عينها من مسألة إلغاء الوجود المسيحيّ في الحسكة والموصل وسهل نينوى، ولماذا لم يتمّ التعامل معها كما تمّ التعامل مع قضيّة عين عرب، وقبلها مع تهديد داعش لمدينة أربيل؟ إنّ المقاربة العقلانيّة تفترض عند المسيحيين اللبنانيين، التفرّس الموضوعيّ، بالمشهد الدوليّ المتناقض مع نفسه بين بقاء الرئيس بشار الأسد كجزء من الحلّ السياسيّ في سوريا، وترك تركيا توغل بواسطة داعش بسلخ المسيحيين، وعلى الرغم من هذا التناقض، فإن بقاء الأسد كجزء أساسيّ من الحلّ السياسيّ السوريّ يفرض على المسيحيين اللبنانيين التعامل معه كمكوّن كبير لهذا الحلّ بوجه تركيا وإسرائيل، وتاليًا، الدخول من هذه البوابة بالذات على الملفّ المسيحيّ في سوريا لتحصينه من الفجوات التي تصيبه وتصدّعه من هنا وهناك، كما يفترض على المسيحيين تشجيع الحكومة اللبنانيّة للتواصل مع الحكومة السوريّة في معركة القلمون-عرسال، وقد أبلى الجيش اللبنانيّ بلاءً حسنًا في السيطرة على التلال الاستراتيجيّة في جرود رأس بعلبك".

أمّا العنوان الثالث، المرتبط بقتال "حزب الله" في سوريا، فاعتبر المرجع عينه، "بأنّ على بعض المسيحيين أن يعقلوا في مقاربتهم لدور حزب الله في القتال في سوريا، وفي الحفاظ على المكوّنات كلّها من دون استثناء". وقد طرح سؤالاً على هذا البعض: "لو لم يذهب الحزب للقتال في سوريا، ترى ما كان وضع المسيحيين من صيدنايا إلى وادي النصارى وحماه (محردة والسقيلبيّة)؟ واستطرادًا لو لم يكن الجيش مع الحزب على الحدود ما بين القلمون وبريتال والزبداني... ما كان مصير مسيحيي البقاع الشماليّ والأوسط؟" وختم المرجع قائلاً: "في خضمّ ما يعيشه المسيحيون من مآس متراكمة، وجب على بعض القيادات المسيحيّة في لبنان الارتقاء الموضوعيّ بالسلوكيّات، والاتجاه إلى حوار هادئ مع الحزب، بعيدًا عن المراهنات التي ارتضوها لأنفسهم، والاتفاق معه على استراتيجيّة دفاعيّة بل هجوميّة من لبنان إلى سوريا للحفاظ على معظم المكوّنات، وبخاصّة المكوّن المسيحيّ".