من يَستَمِع إلى وزير الخارجية الأميركي جون كيري يَتحدّث عن "مصلحة مشتركة في التصدّي لتنظيم داعش" بين كل من واشنطن وطهران، ومن يَستَمِع إلى الإنتقادات المُتبادلة بين عدد من كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية من جهة، ورئيس الوزراء الإسرائيلي ​بنيامين نتانياهو​ وكبار مساعديه من جهة أخرى، يظنّ أنّ الولايات المتحدّة الأميركية على وشك التخلّي عن حليفها الإستراتيجي في الشرق الأوسط، أي إسرائيل، للدخول في حلف جديد مع إيران، لكنّ هذا الإنطباع غير صحيح! فما الذي يحدث فعلياً؟

أوّلاً: إنّ الولايات المتحدة الأميركية مُصرّة على أنّ الخيار العسكري الذي تطالب به إسرائيل منذ سنوات للجم الطموحات النووية الإيرانية هو غير وارد، لا من الناحية الميدانية العسكرية بسبب قدرة إيران العالية على المواجهة، ولا من الناحية الإقتصادية–المالية، لأنّ أيّ حرب على هذا المستوى وفي هذه المنطقة الحسّاسة نفطياً من العالم، ستُشكّل خطراً على الإقتصاد العالمي وعلى إستقراره المالي.

ثانياً: إنّ الولايات المتحدة الأميركية مُقتنعة بأنّ أفضل طريقة للحفاظ على أمن المنطقة، وعلى مراقبة البرنامج النووي الإيراني، وعلى ضبط سقف تخصيب اليورانيوم، وعلى توجيه كل التقدّم المُحقّق من قبل إيران نحو أهداف سلميّة، لا يُمكن أن يتمّ إلا عبر المفاوضات المباشرة، خاصة بعدما تبيّن فشل سياسة العقوبات التي مُورست من قبل أميركا لعقود ضد إيران، وتحديداً إعتباراً من العام 1979، والتي أخذت طابعاً دولياً وأممياً إعتباراً من كانون الأوّل 2006(1).

ثالثاً: إنّ الإدارة الأميركية تستغلّ الإنتقادات القاسية التي تتعرّض لها من جانب القادة الإسرائيليّين، وكذلك من كبار المَسؤولين الخليجيّين، لإظهار نفسها على طاولة المفاوضات في موقع المُتنازل والمُفرّط بتحالفاتها، وذلك بهدف عدم تقديم المزيد من التنازلات لصالح إيران. فكلّما كانت الإعتراضات أقوى وأعلى، كلّما تمكّنت واشنطن من المناورة أكثر، لجهة الحدّ من مجموعة التنازلات التي تطالبها بها طهران، وذلك بحسب تحليل أكثر من خبير أميركي في شؤون المفاوضات الدَوليّة.

رابعاً: إنّ إيران في المقابل، تُدرك أنّ موقعها التفاوضي قوي، لأنّها نجحت في التأقلم مع مختلف أنواع العقوبات والضغوط التي إستهدفتها على مدى سنوات طويلة، ولأنّها اليوم أقوى عسكرياً من أيّ وقت مضى. وتعلم إيران علم اليقين أنّ أميركا والمُجتمع الأوروبي والغربي عموماً مُضطرّ للتنسيق معها، لمنع توسّع تنظيم "داعش" الإرهابي، ولمحاصرة خطره من الناحية الجغرافية. وإيران على قناعة تامة أيضاً أنّ إلتقاء المصالح الذي يجمعها مع الدول الغربيّة في المرحلة الراهنة، يُحتّم إنجاح المفاوضات التي دخلت حالياً مرحلتها الحاسمة، لجهة ضرورة التوصّل إلى إتفاق مبدئي قبل نهاية شهر آذار، وإلى إتفاق نهائي قبل نهاية حزيران المقبل، بغض النظر عن الغُبار الذي تثيره الجهات المُعترضة.

خامساً: تُحاول إيران من خلال التهديدات العالية السقف التي يُطلقها كبار مسؤوليها، وعبر مناوراتها العسكرية المتكرّرة، وأحدثها بعنوان "الرسول الأعظم 9" وقد نفّذها "الحرس الثوري الإيراني" إنطلاقاً من جزيرة "لارك" عند مدخل مضيق "هرمز"(2)، تعزيز موقفها التفاوضي أكثر فأكثر، والضغط لإتمام الإتفاق ضمن المُهل المحدّدة، والتحذير بأنّ الخيار الآخر ليس مزيداً من العقوبات بل توتّراً أمنياً خطيراً في منطقة حسّاسة جداً من العالم.

سادساً: إنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي سيُلقي الأسبوع المقبل كلمة أمام الكونغرس الأميركي، بدعوة من كبار المسؤولين الجمهوريّين فيه، يستغلّ الموضوع لتعزيز موقعه الداخلي عشيّة الإنتخابات الإسرائيليّة والتي يتوقّع أكثر من محلّل غربي متابع لتفاصيلها، أن تعيد اليمين المتطرّف إلى السلطة مجدداً، مع كل ما يعنيه هذا الأمر من إستمرار للجمود على مستوى العمليّة التفاوضية مع الفلسطينيّين، ومن توتّر سياسي وأمني على غير محور. ويرمي نتانياهو أيضاً من خلال زيارته الأميركية إلى محاصرة الرئيس الأميركي ​باراك أوباما​، وإلى إستنهاض كل من يُمكنه عرقلة التوصّل إلى إتفاق إيراني–غربي.

لكن وعلى الرغم من كل ما تقدّم، فإنّ الخلافات بين نتانياهو وفريق عمله من جهة وأوباما وإدارته الحاكمة من جهة أخرى، لا تعني بأيّ شكل من الأشكال أيّ تغيير في التحالفات الإستراتيجيّة الأميركية–الإسرائيليّة. والخلافات بين واشنطن وتل أبيب حالياً، تعود إلى المعركة الإنتخابية المُرتقبة في إسرائيل، وإلى صراع النفوذ بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في أميركا، وإلى إختلاف كبير في تقييم خطر "داعش" بين الطرفين، إضافة طبعاً إلى عدم الإنسجام الشخصي بين كل من أوباما ونتانياهو. وليس مُستغرباً أن يضع هذا الأخير كل ثقله لإفشال خطط أوباما الهادفة إلى التوافق مع إيران بشأن ملفها النووي، للحصول على دعم إيران ضد التنظيم الإرهابي، خاصة وأنّ نتانياهو يعتبر أنّ الخطر النووي على إسرائيل هو أكبر بكثير من أيّ شيء آخر، وبأنّ طهران مُرغمة على مُواجهة "داعش"، ولا حاجة بالتالي لمُبادلة دخولها في المعركة بأيّ تنازلات في الملفّ النووي أو غيره.

(1)تلتها سلسلة من العقوبات الأمميّة الإضافية في آذار 2007 ثم آذار 2008 فحزيران 2010، وكذلك عقوبات مفروضة من الإتحاد الأوروبي ضد إيران إعتباراً من آب 2010 قبل أن يتمّ توسيعها أربع مرّات وصولاً حتى كانون الثاني 2012.

(2)نفّذ "الحرس الثوري الإيراني" مناورات عسكرية ضخمة تمّ خلالها إطلاق صواريخ باليستيّة من البرّ الإيراني نحو البحر، وشَنَّ هجمات بالذخيرة الحيّة من على متن طوافات وزوارق حربيّة، وزرع مجموعة من الألغام البحريّة المتطوّرة قبل أن يُفجّرها لاحقاً، وإستهدف نموذجا لحاملة طائرات تابعة لعدوّ إفتراضي.