في خضم "ورش العمل" السياسية التي تجرى على "قدم وساق" داخل أروقة 14 آذار تحضيراً لذكرى إنطلاقتها العاشرة، يكثف النائب السابق فارس سعيد زياراته الى معراب للقاء الدكتور سمير جعجع. ومن هناك يشدو ويصدح وترتفع نبرات صوته حيناً وتخفت احياناً، ترتفع نبرة صوته حين يؤكد ترشيح 14 آذار للدكتور جعجع في وجه خصمه اللدود العماد ميشال عون. فسعيد يؤكد انه عراب ترشيح جعجع والسد المنيع في وجه انتخاب عون. وفي كلتا الحالتين وبواقع الامر يسجل سعيد كلامًا إنشائيًا فقط. ولعل ابرز تجليات نضوج جعجع السياسي بعد خروجه من سجن وزارة الدفاع في العام 2005 ان بدأ بفرض حيثية سياسية له بعد الشعبية والتي تعد الثانية اليوم بعد التيار الوطني الحر وفق ما تجمع عليه معظم الاحصاءات واستطلاعات الرأي الاخيرة التي أجريت في الاشهر الستة الماضية.

هذه الحيثية السياسية توّجها بعد فرض ترشيحه على الرئيس سعد الحريري وعلى 14 آذار - التجمع والقوى المسيحية والاحزاب بما فيها حزب الكتائب. وقبل ترشيحه كان جعجع يستغل معظم تفكيره السياسي وحركته لخدمة امرين اساسيين : تفنيد خطاب السيد حسن نصرلله والرد عليه نقطة نقطة بعد الاستماع اليه اكثر من مرة. والامر الثاني التصويب على ميشال عون وكل تصريح او خطوة يقوم بها الرجل. بعد ترشحه للرئاسة في وجه ميشال عون، وتبني سعد الحريري محرجاً هذا الترشح بداية عاد الحريري للاستدراك والاستثمار في هذا الترشح فمن جهة يبيض سجل جعجع العدلي والسياسي من محكوم ومدان في قضايا بالمجلس العدلي الى مرشح للرئاسة الاولى ومن جهة ثانية يستطيع الحريري بهذا الترشح ان "يزكزك" ما شاء ميشال عون وكذلك حليفه نصرالله ويرمي ما امكن من أسافين بينهما.

حتى هذه اللحظة ورغم تحاوره مع نصرالله عبر معاونه حسين الخليل ومع عون شخصياً وصهره جبران باسيل عبر نادر الحريري يبقى في مخيلة سعد الحريري ان ترشيح جعجع ورقة هامة وصالحة للاستعمال حتى وقت طويل، طالما ان الازمات الجارية في المنطقة على حالها وفي طور الاشتعال المتزايد، وطالما ان السعودية لم تحجز مكاناً لها او تحقق اوراقاً في اليمن والعراق وسورية.

14 آذار وتجمّعها الحالي هي ورقة في جيب الحريري، لكنها صارت ورقة خاسرة او عبئاً على تيار "المستقبل". فالمستقبل نفسه اسير الازمات الجارية ومنعكسة عليه على غرار القوى السياسية الاخرى. فالحريري يسير بترشيح جعجع رغم 14 آذار وإرادة مسيحييها من "كتائب" امين الجميل الى مستقليها كبطرس حرب وكذلك تبدو قدرة 14 آذار تجمّع الاشرفية محدودة للغاية داخل الحكومة وزادت بعد محاولة التمايز التي قام بها بعض المستفيدين من وجودهم في إطارها كالمستقلين والكتائب في ما يعرف باللقاء التشاوري الذي بدأ ثمانياً وتحول الى سباعي بعد خروج ميشال فرعون بضغط من "المستقبل".

على المستوى الداخلي ايضاً تتضاءل الشعارات عاماً بعد عام التي سترفع في إحتفالات البيال السنوية. فمنذ إنطلاقتها رفعت 14 آذار لواء تحقيق العدالة للرئيس الشهيد رفيق الحريري عبر إنشاء المحكمة الدولية والاستثمار فيها لتوجيه الاتهام السياسي المستمرلسورية و"حزب الله". وهذه المحكمة لم تنجح حتى اليوم في إقناع احد انها ستصل الى حقيقة ما في زمن ما. وحتى "إقتلاع" الوجود السوري من لبنان يعتبره منظرو 14 آذار انه من "بركات" وثمار ثورتهم ولعله هالهم مشهد الزحف الشعبي وحجم التأييد الذي ظهر لدى مبايعة الرئيس السوري بشار الاسد منذ اشهر وقت الانتخابات الرئاسية، فاكتشف هؤلاء ان سورية خرجت بجيشها من لبنان عبر الباب وعادت ودخلت عبر الشباك بعد تفعيل حركة 8 آذار. وحتى إسقاط النظام السوري ورحيل الاسد من الشعارات التي نادى بها منظرو "الاستقلال الثاني" طيلة 4 اعوام ولم يتحقق شيء منها حتى الآن.

سلاح "حزب الله" وتنفيذ القرار 1559 ايضاً من الشعارات التي رفعت وعلا الصراخ بها من العام 2005 وحتى اليوم وكذلك تأطير هذا السلاح ضمن الدولة الى معزوفة توسيع صلاحيات اليونيفيل والقرار 1701 وترسيم الحدود بين لبنان سورية والانقلاب على مطلب التمثيل الدبلوماسي بين لبنان سورية بطرد السفير السوري من لبنان وإلغاء المجلس الاعلى اللبناني - السوري.

إقليمياً راهنت 14 آذار على السعودية لتغيير المعادلات الاقليمية بإسقاط نظام بشار الاسد وتكبيل الدور الايراني في المنطقة وفي سورية والعراق والمساومة على "حزب الله" وسلاحه، لكن رهانات السعودية فشلت كلها حتى الآن في اليمن والعراق وسورية ولبنان ومعها سقطت احلام سعيد ورفاقه "الاستقلاليين".

الرهان على الاميركيين لتحقيق ما تصبو اليه "ثورة الارز" لم يفلح ايضاً بعد الخروج من افغانستان والعراق ولولا حالة "داعش" المستجدة لما كان للاميركيين وجود في المنطقة اليوم.

بعيداً من ورش العمل التي يصرح عنها فارس سعيد والزيارات المتكررة لمعراب وكذلك الاجتماعات الدورية في الاشرفية، وعلى اعتاب الذكرى العاشرة لانطلاقتها، فإن 14 آذار في حاجة لاعادة نظر سياسية وبنيوية أكبر واعظم وأهم من تلك الحاصلة اليوم وبعيداً من المواقف الرنانة والبطولات الانشائية. 14 آذار اليوم هي ظل لسمير جعجع الطرف المسيحي الاقوى فيها وتابعة لتيار المستقبل الغارق في تحالفاته وازماته التي هي انعكاس لازمات ومشاكل المملكة السعودية.