عادت عمليات إستهداف ​الآثار​، من قبل التنظيمات الإرهابية المسلحة، إلى الواجهة من جديد، لا سيما بعد الذي حصل في مدينة الموصل العراقية على يد تنظيم "داعش"، في مؤشر خطير على رغبة البعض بتدمير ذاكرة شعوب المنطقة وحضارتها، حتى لو حاول هؤلاء تبرير أفعالهم البربرية بالتلطي خلف إعتبارات دينية.

ومن المفارقات اللافتة، خصوصاً في السنوات الأخيرة، أنّ هذه العمليات أصبحت ممنهجة إلى حدّ بعيد، لتنتشر معها موجة تجارة القطع الأثرية، حيث يتم العثور لاحقاً على بعض المفقودات في بلدان بعيدة تباع فيها بالمزادات العلنية، في حين تعجز الدول التي تم سرقة الآثار منها عن إسترجاع معظمها بسبب إنشغالها بأمور أخرى، أبرزها التحديات الأمنية والإقتصادية والإجتماعية.

ما يحصل لا علاقة له بالإسلام

في هذا السياق، يشير أمين عام الإتحاد العام للأثريين العرب، الدكتور ​محمد الكحلاوي​، إلى مؤتمر عقد منذ نحو عام عن الجماعات التكفيرية والأفكار المنحرفة، ويؤكد أن هذه الممارسات لا علاقة لها بالدين الإسلامي بأي شكل من الأشكال، ويشدد على أن أصحاب النبي محمد حافظوا على آثار كل الشعوب عندما حصلت الفتوحات، ويعتبر أن الدليل على ذلك أنها لا تزال موجودة حتى اليوم.

من هذا المنطلق، يرى الكحلاوي، في حديث لـ"النشرة"، أن هذه الأفكار تُلصَق بالدين من دون وجه حق، في حين أن الهدف منها إجرامي بشكل أساسي، ويشير إلى أن ما حصل في الموصل في اليومين الماضيين هو صورة من صور "فجور" الجماعات الإرهابية.

من جانبه، يعتبر الباحث اللبناني الدكتور ​حارث البستاني​ أن الأسباب الرئيسية تعود إلى أن المسلحين المجرمين يعتبرون أنها آثار حضارات كافرة، من وجهة نظرهم، لا تمت إلى الإسلام بصلة، لكنه يشدد على أن الإسلام لا يقول ذلك، ويعتبر أن ما يحصل يندرج في سياق برنامج هدفه تدمير ذاكرة الإنسان والإنسانية، ويضيف: "القضاء على ذاكرة أي شعب يعني القضاء عليه بشكل كامل".

البستاني، الذي يشدد على أن من يذبح الإنسان أمام الكاميرا يستطيع أن يقوم بأي شيء، يؤكد، في حديث لـ"النشرة"، أن حزنه عند مشاهدته عملية تدمير الآثار في الموصل كان أكبر، لأنه عملٌ أقلّ ما يقال عنه أنه إبادة لشعب، ويشدد على أن من واجب الجميع حماية الآثار، كونها تمثل عملا حضاريا لا يتكرر.

ماذا عن عمليات السرقة؟

عمليات إستهداف المواقع الأثرية والتاريخية هي الأخطر، على الصعيد الإنساني، ولا يمكن التغاضي عن هذا الأمر، من خلال القول أن هناك مئات المواطنين الذين يُقتَلون على يد هؤلاء في الوقت عينه، خصوصاً أن منظمة "الأونيسكو" كانت قد دعت في أكثر من مناسبة إلى حماية الآثار.

وكانت الأمم المتحدة قد أصدرت، مؤخراً، قراراً يحظر الاتجار بالآثار السورية المسروقة، ويهدف إلى تجفيف منابع تمويل التنظيمات الإرهابية المسلحة، وأشارت إلى أن هذه التنظيمات تؤمن دخلها من خلال بيع القطع الأثرية المنهوبة.

من وجهة نظر الدكتور الكحلاوي، هذه العمليات تأتي بتوجيه أجنبي مباشر، ويلفت إلى أن هذا الأمر مثبت من خلال ظهور الآثار المنهوبة في بعض البلدان الغربية، ويوضح أن الإتحاد عمل على استرجاع عدد منها في الفترة السابقة، ويتنقد الحكومات العربية التي كان عليها واجب تسجيل هذه الآثار لحمايتها.

أما بالنسبة إلى الآثار التي تعرض مدمرة عبر وسائل الإعلام المختلفة، فيدعو الكحلاوي إلى البحث عمّا خفّ وزنه وارتفع ثمنه، حيث يشدد على أن هذه الإفلام تكون هي الغطاء لعمليات سرقة كبيرة، يتم من خلالها إيهام الرأي العام بأنّ كلّ ما فُقِد تمّ تدميره، في حين أنّ ما يُدمَّر هو التماثيل الكبيرة التي يصعب نقلها إلى الخارج.

ويربط الكحلاوي بين الفوضى وسرقة الآثار، ويشدد على أن هذا الأمر تمّت ملاحظته في كل من سوريا والعراق ومصر وليبيا، ويكشف عن إرتباط مافيات محلية بأخرى أجنبية تعمل ضمن تنظيم واحد، ويشير إلى أن الخارجية منها تطلب الحصول على بعض الآثار بالتحديد، ويضيف: "هؤلاء يدركون جيداً قيمة هذه الكنوز على عكس العملاء المحليون".

بدوره، يؤكد الدكتور البستاني أن عمليات السرقة تحصل، لكنه يعتبر أن المتاحف في كل دول العالم من المفترض أن تكون قد أدركت ذلك جيداً، وبالتالي هي تقوم بنقل القطع الصغيرة في حالات النزاعات التي يكون فيها الخطر كبيرا، خصوصاً أن مثل هذه الأعمال حصلت في السابق، ويوضح أنه في لبنان خلال فترة الحرب تم نقل القطع الصغيرة من المتحف الوطني من أجل حمايتها، في حين تم تدعيم القطع الكبيرة التي لا يمكن نقلها منعاً لتضررها من جراء سقوط القذائف، ما يخفف حكماً من إحتمالات أن يكون الهدف من الأعمال التي تحصل هو السرقة.

من وجهة نظر البستاني، قد يكون أمراً مفيداً القول أن الدول المستعمرة أخذت بعض النماذج من الآثار التي تمثل الحضارات القديمة، وربما هذا الأمر يساهم في الحفاظ عليها، في الوقت الذي تدمر فيه في أماكنها الحقيقية، ويضيف: "نستطيع لاحقاً بناء نماذج عن المدمرة لكن الأصلية إنتهى امرها".

في المحصلة، هي حرب على كافة المستويات، الحضارية منها هي الأخطر، كونها تمثل محاولة إبادة لتاريخ طويل يمثل هوية المنطقة، والحفاظ على الآثار يجب أن يكون أولوية إلى جانب حماية المواطنين.