ليس الزمن زمن مسيحيي المشرق، لا بل هو ليس زمن أيّ مشرقي شاء قدر الجغرافيا أن يعيش تحت رحمة الحركات التكفيرية. هو قدرُ أبناء الكنيسة الذين قرروا التجذّر في سورياهم وعراقهم ومصرهم وفلسطينهم ولبنانهم. قدرُ مئات آلاف المسيحيين المهجّرين. قدرُ 21 قبطيًا ذًبحوا بدم بارد. قدرُ 220 آشوريًا خُطفوا في ليلة آلام قمراء. كلّ تلك الآلام تتلقفها الكنائس المشرقية، ليس فقط بالصلوات والتضرّعات، بل أيضًا بالدعوة الى وحدةٍ عربيّة وصحوةٍ غربيّة كفيلتين بإنقاذ من بقي من مسيحيي هذه الأرض النازفة بفعل الإيمان.

بحرقةٍ لا تحدوه الى الاستسلام ينظر البطريرك غريغوريوس الثالث لحام الى ما يحلّ بشرقه ومسيحييه وجميع أبنائه. بحرقةٍ لا تدفع شفتيه الى التفوّه بعبارات الرحيل خوفًا من الاضطهاد ينظر بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الكاثوليك الى “تفريغ” ممنهج لا يخيف أيًا من أبناء بيعته أو البيعات الأخرى طالما أن جرسَ كنيسة واحدة يُقرَع في هذا الشرق من دون أن يخنقه وجعُ الرحيل. كثيرةٌ هي القضايا التي تصلي من أجلها كنيسته وباقي الكنائس. من لبنان الذي يؤمن غبطته بأن غياب رأس الدولة عنه ما هو إلا طعنة في ظهور مسيحييه يبدأ كلّ شيء. من هذه الأرض الرسالة التي تجمع بطاركةً ومطارنة متألمين باحثين في بلاد العرب عن وحدةٍ وفي دول القرار عن تحرّكٍ فاعل يبدأ كلّ شيء.

عمل جريء وقوي

يؤكد البطريرك لحّام في مقابلة خاصّة لـ “​صدى البلد​” “أننا تواعدنا كبطاركة كاثوليك أن نلتقي قريبًا جدًا بغية وضع خطّة طريق لأجل تفعيل دور الكنيسة في المجتمع وتحديدًا في الأزمة الحالية التي لا تخصّ بلدًا فحسب بل هي أزمة كلّ العالم العربي، ونعوّل على أن تكون هناك استراتيجة فاعلة للعام 2015 محليًا وإقليميًا وعربيًا ومسيحيًا وأوروبيًا ودوليًا، على مستوى الفاتيكان والأمم المتحدة وبروكسل وجنيف وسواها... نخطّط لعمل جريء وقوي ليكون على مستوى خدمة ليس فقط أولادنا المسيحيين بل جميع مكوّنات هذا الشرق الذي نحن جزءٌ لا يتجزأ منه. اليوم الإنسان ضاعت قيمته لذا يُقتَل ويُحرَق ويُهجَّر، ونحن مهمتنا أن ندافع عن هذا الإنسان في الوطن العربي".

العرب مسؤولون

الى أي مدى تتلاقى هذه الخطة مع المناشدات المطّردة بتحرّك أكثر فاعلية للكنيسة المشرقية كي لا تُتَهم بالتخاذل والتفرّج على أبنائها يُضطهدون؟ يجيب لحام: “طبعًا سبق وتحرّكنا وما زلنا نتحرّك على مستوى معاناة أبنائنا، ولكنّ المقصود اليوم من هذه الخطة أن نخرج بإعلان مشترك وخطة مشتركة فكرية روحية- إجتماعية- سياسيّة- محلية- دولية ننطلق منها الى العالم. وأتبنى الكلمة الفصل التي قالها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في السعودية ومفادها أن تأليف وحدة عربية وحده يضمن مستقبلنا. والرئيس نبيه برّي شدّد على كلمتي عندما قلت إن الوحدة العربية هي المستقبل. وأقول أكثر: العرب مسؤولون عن محاربة “داعش” وليس الولايات المتحدة، ويمكنهم بمكوّنيهم المسيحي والإسلامي أن يتحملوا هذه المسؤولية لأن الوحدة العربية هي الآلية الأكثر نجاعة لتحقيق هذا الهدف... وأبعد من ذلك هي الضمانة لكلّ مواطن في الوطن العربي، أما إذا كان الرؤساء منقسمين فالشعب يكون على دين أسياده".

قوّة إنسانية وطنية

ولكن فلسطين، القضيّة المركزية، لم تُفلح في تحقيق وحدة عربيّة إزاءها، هل سينجح التطرّف في استيلاد مثل هذه الوحدة؟ يتلقف لحام: “الحقيقة أن الوحدة العربية هي أيضًا التي يمكنها أن تعطي قوّة إنسانية وطنية قوميّة اجتماعية جبارة في سبيل حلّ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. والبابا قالها في الرابع عشر من أيار الفائت خلال زيارته الأردن مشيراً الى أن هناك مفتاحين للسلام في المنطقة والعالم: المفتاح الأوّل توافق شامل للأزمة السورية فعليًا، والمفتاح الثاني هو العدالة للفلسطينيين. والحبر الأعظم أصاب الهدف في هذه الكلمات، وأظنّ أن الوحدة العربية ستعيد القضية الفلسطينيّة الى مستواها الحقيقي. وأبعد من ذلك، إذا كانت هناك وحدة عربية يغدو العالم العربي مجهزًا ومرشحًا لوسام جائزة نوبل للسلام على صدره، حينها فقط بوحدتنا نصدّر السلام لا الحرب وتنتشر الحريّة والديمقراطية والمواطنة والدولة المدنية والتناغم بين الدين والدولة والإسلام والشريعة. هذه الشريعة لا يمكن أن نستغني عنها، وأيضًا وصايا الله العشر. هذه شريعتنا، كلّ شريعة تتناغم مع مقتضيات القيم المسيحية. لمَ لا؟ الشريعة الإسلامية جيدة وأيضًا المسيحية والإنجيلية. هذا هو المستقبل ولا نرضى أن يكون هذا مكان ذاك. حينها فقط يحقّ لنا أن نفاخر بأن مشرقنا، مهد الديانات والحضارات، من أنجع نموذجات العيش المشترك في العالم".

وقفة فاتيكانية

اليوم، يعيش الآشوريون زمنيْ آلام بعد تهجيرهم وقتلهم وخطفهم، هل من خطواتٍ فاعلة لمستموها من قبل الفاتيكان والمجتمع الدولي لإنقاذ هذه الأقلية المسيحية في الشمال السوري؟ يعلّق لحام: “اتصلتُ شخصيًا بالمطران افرام الآشوري في الحسكة للإطلاع على واقع إخوتنا الآشوريين المنتشرين على ضفاف نهر خابور والحسكة والقامشلي، ونحرص من خلال كلّ ظهوراتنا الإعلامية وفي غير مناسبة أن نحمل هذه الآلام الى العالم. والبابا فرنسيس خلال صلاة السلام الملائكي الأحد (أمس الأول) طلب من الآلاف الموجودين في الساحة أن يقفوا ويصلوا من أجل إخوانهم الآشوريين. وأظنّ أن شعار العالم هو ما قاله البابا في رسالة الصوم: نعيش عولمة اللامبالاة، تقابلها عولمة التضامن. وبإذن الله سنتمكن من هنا، من لبنان وسورية وهذا الشرق من إطلاق عولمة القيم الكبرى، عولمة التضامن".

الشغور... طعنة

أسلفتم أن لبنان لا بدّ أن يشكّل لا محال منطلقًا لأيّ خطةٍ أو عولمة تختمر فيه وتنطلق الى العالم برمّته. ولكن هذا الوطن الصغير ليس أفضل حالاً من جيرانه، وإن كان يعيش استقرارًا أمنيًا نسبيًا إلا أنه يفتقد رأسه. فالى أي مدى قد يشكّل هذا الشغور الرئاسي مسمارًا إضافيًا في جسد الشرق المصلوب؟ يقول لحام: “الإلحاح على انتخاب رئيس للجمهورية لا يفارق شفاهنا وألسنتنا، وهو موضوع الضراعات والصلوات في أيام الصوم ورفع الأيدي أمام الله لتتحقق أمنية كلّ لبناني ويكون له أمنه وأمانه واستقراره بانتخاب رئيسٍ للجمهورية، والوسام الجوهري يكون في حفظ كرامة لبنان ورسالته، ولبنان من دون مكوّناته الأساسيّة سيكون بلا رأس وبالتالي لا يمكنه أن يتمّم رسالته التي كانت عبر التاريخ ولا تزال رسالة الى كلّ العالم العربي”.

كادر

بلبلة المدرسة البطريركية

في ما يتعلّق بالمدرسة البطريركية-زقاق البلاط التي أثار الحديث عن تأجيرها بلبلةً في الأوساط الكاثوليكية، كرّر لحام التشديد على كلّ ما ورد في البيان الذي أصدره باسم البطريركية أمس والذي جاء فيه ما حرفيته: “منذ مدة تحاول البطريركية ايجاد حلول لتطوير المدرسة البطريركية في زقاق البلاط - بيروت، وقد وردت إلى البطريركية عروض مختلفة. وأخيرًا قدم عرض انكب غبطة البطريرك مع السينودس الدائم، بالاضافة إلى المجلس الاقتصادي في البطريركية ونخبة من أبناء الطائفة في بيروت، على دراسته بتروٍّ وموضوعية علمية. ولن يؤخذ أي قرار إلا بعد الدراسة المستفيضة، واتباع الآلية التي تفرضها القوانين الكنسية”.