يُعاني لبنان من كثير من الظواهر الشاذة التي تُطبّق بغير وجه حقّ مقولات شعبيّة شائعة، منها على سبيل المثال "الكيل بمكيالين" و"ناس بسمنة وناس بزيت"، خاصة في موضوع ملاحقة السلاح والمُسلّحين والأحكام المرافقة لذلك، بحيث أنّ إقتناء السلاح وبيعه بالمفرّق ليس ممنوعاً فقط، بل يُعرّض الشخص المَعني للملاحقة وللأحكام القضائية بينما إقتناء كمّيات كبيرة من السلاح وبيعها بالجملة ولأغراض مشبوهة يدخل في سياق التسويات والبازارات السياسيّة والدينيّة. وحتى لا يكون الكلام نظرياً، لا بُد من التوقّف عند أمثال حسّية من الأيّام القليلة الماضية.

فأيّ مُتابع لبيانات قوى الأمن الداخلي، ولأحكام المحكمة العسكريّة الدائمة، وغيرها من السلطات الرسميّة والقضائيّة والعسكريّة في لبنان، يلاحظ حصول عمليّات توقيف عدّة بشكل دَوريّ، وصدور العديد من الأحكام الوجاهيّة والغيابيّة، بحقّ أشخاص على الأراضي اللبنانيّة، "بجرم نقل سلاح حربي دون ترخيص" مثلاً، غالباً ما يكون عبارة عن مسدّس أو رشّاش عادي، ربّما للحماية الشخصيّة في بعض الحالات. وعمليّات التوقيف الوجاهية التي تليها محاكمات قضائية، تترافق مع ظروف قاسية ومُحرجة ومُهينة للشخص المَعني وكذلك مع غرامات ماليّة، وهي يمكن أن تمتدّ لأسابيع وأشهر عدّة، تبعاً لمعطيات مختلفة لا مجال للدخول في تفاصيلها بشكل مُقتضب. لكن ما يهمّنا يتمثّل في الإختلاف في التعامل بين شخص وآخر، في نفس طبيعة "الجُرم"، لابل بما يفوقه بعشرات المرّات أحياناً. فحتى الساعة، لم يفهم الكثيرون السبب الذي قضى بالمفوّض العسكري لدى المحكمة العسكريّة القاضي صقر صقر بإخلاء سبيل ​بلال دقماق(1)بعد أيّام قليلة على توقيفه من قبل عناصر الأمن العام اللبناني في مطار بيروت الدولي بموجب وثيقة أمنيّة عمّمتها مديريّة الإستخبارات في الجيش، وذلك بعد أن كان قد أوقف في تركيا أيضاً لحيازته مبالغ مالية نقديّة كبيرة مشبوهة المصدر ومشبوهة وجهة الوصُول النهائي. وكان الجيش اللبناني قد تمكّن في نهاية شهر تشرين الأوّل من العام الماضي، من مصادرة كمّية كبيرة من الأسلحة الخفيفة والمتوسّطة مع عتادها وذخائرها، وذلك داخل شقّة في منزل دقماق العائلي، قبل أن يتمّ تمييع الموضوع ونسب ملكيّة "المخزن" المُصَادر إلى مؤسّس "التيّار السفلي" في لبنان، داعي الإسلام الشهّال، المطلوب قضائياً وغير المتواجد على الأراضي اللبنانية منذ فترة. والأسئلة التي تفرض نفسها بقوّة هنا، هي:

أوّلاً: إذا كان توقيف كلّ حامل سلاح فردي غير مُرخّص ومعاقبته بالغرامة والسجن يُمثّل تنفيذاً لأحكام القانون وبسطاً لسلطة الدولة ومنعاً إستباقياً لجريمة مُحتملة، إلى ما هناك من تعابير مطّاطيّة وشعريّة، فلماذا لا يتمّ تطبيق المبدأ نفسه ضُدّ من تصدر بحقّه تقارير أمنيّة وتعاميم ملاحقة وتوقيف، بتُهم خطيرة مثل إمتلاك مخازن أسلحة، والمتاجرة بالسلاح وبيعه بالجملة، وتوزيعه على مجموعات مسلّحة، والتحريض على الجيش، إلخ؟

ثانياً: هل يُوجد في لبنان قانون واحد مُوحّد يُطبّق على الجميع، وسلطات أمنيّة تعمل على تنفيذه بموجب أحكام واضحة، أم أنّه توجد أجهزة أمنيّة مُتضاربة التقارير وأسلوب التعامل، وسلطات قضائيّة متضاربة القرارات والمرجعيّات؟

ثالثاً: إذا كان دقماق بريئاً وقد تبيّن "أن لا تهم إرهابيّة بحقّه" كما جاء في التبريرات المُسرّبة لإطلاقه، فلماذا توقيفه أساساً ومن يعيد له كرامته الشخصيّة بعد أيّام من التوقيف وإطلاق عشرات التُهم بحقّه، وإذا لم يكن بريئاً، فكيف يُعقل أن يتمّ الإفراج عنه بمجرّد أن يقول "كل بيت في لبنان يوجد فيه سلاح، والذي وُجد في منزلي ليس ملكي...!". فهل يُسمح لمن يُقبض عليه وهو يحمل مسدّساً على خصره، أن يُطلق هكذا تبريرات لمنع محاكمته، علماً أنّ ما يحدث فعلياً هو "جرجرة مُهينة" إلى المحاكم، يتبعُها أحكام قضائيّة، ثم فترة سجن لا بأس بها؟!

في الختام، ربما قد يكون مفهوماً أن تقوم الدولة باستغلال بعض الأشخاص الذين يتمتّعون بعلاقات جيّدة مع "التيّارات الإسلامية" لاستخدامهم كصلة تواصل عندما تدعو الحاجة، وربّما قد يكون مفهوماً أن لا يتم التشدّد في عقوبات الأسلحة الفرديّة، نتيجة تفشّي السلاح هنا وهناك، تارة تحت شعار "حماية مخيّم" هنا، وطوراً تحت شعار "عمل مقاوم" هناك، وبذريعة "تقاليد لبنانيّة" هنالك، إلخ. لكن من غير المفهوم إطلاقاً أنّ تتحوّل عقوبة إمتلاك "مخزن كامل للسلاح" مع كل إمتدادات هذا السلاح الخطير الداخليّة والخطيرة، إلى أقلّ من عقوبة نقل مسدّس فردي غير مرخّص يحمله تاجر ما مثلاً، ومن غير المفهوم على الإطلاق أيضاً أنّ يتحوّل شخص من مطلوب بتهم مُصنّفة "إرهابيّة" وتطال أمن الدولة، ويتمّ توقيفه بموجب مذكّرة توقيف، ويتم سجنه لأيّام عدّة، ثمّ يتم إطلاقه بأمر قضائي صادر من مرجعيّة أعلى هنا أو هناك، وبضغط سياسي من هنا أو هناك!

(1)يُطلق عليه البعض لقب "شيخ" بحجّة حيازته على إجازة في الشريعة الإسلامية من أحد المعاهد الشرعيّة في سوريا، ويُشكّك البعض الآخر بشرعيّة كل من هذه الإجازة والمعهد المعني.