تجلّت الأيقونة في الأحد الأوّل من الصوم عند المسيحيين الأرثوذكس رافعة في بهائها تراثًا كتب بالدم ولا يزال يكتب بسبب الإيمان. هي تعبير عن الحبّ الكثيف المتجسّد في الذات، والتعبير شهادة ممدودة ما بين الكلمة واللون والدماء التي سفكت في لحظات العبادة، ولا يسوغ الكلام "أو الوضوء بالدم" إلاّ في مدى العشق.

في الرسالة التي تليت على مسامع من شارك في الخدمة، وصّف القدّيس بولس ما حدث لأتباع يسوع من اضطهادات ومآس وامتحانات صعبة، ولكنّه قال "بالإيمان قهر موسى الممالك"، أيّ اعتبر بأن التسليم المطلق للمشيئة الإلهيّة والذي هو معنى الإيمان، يحفّز من ذاب في الوهج وهو الوجه الساطع من فوق، العبور. والعبور في أصله العبريّ تعني الفصح، أيّ يحفّز الانتقال من العبوديّة إلى الحريّة، ومن الموت إلى الحياة، على الرغم من الصعاب التي يواجهها المؤمنون يومًا فيومًا. والأيقونة التي سطعت ببهاء الوهج قد أمست في نهاية المطاف رواية تخبر عن صليب غرس في وسط الكون فوق تلّة أورشليم، واستوى عليه الإله في عراء مطلق حتّى الموت، ومنه أظهر قوة الحياة بانتصاره، هذا الذي سينكب عليه المسيحيون بعد هنيهات من الزمن.

والرواية لا تظهر الحدث بالفعل الماضي، ولكنّها تظهره في المضارع، أي في الزمن الحاليّ، في ظلّ ما يعيشه المسيحيون من اضطهادات لا تطاق، ممدودة من العراق إلى سوريا وفلسطين وصولاً إلى إفريقيا... هو صليب ينغرس بقوّة بهذه الاضطهادات المتراكمة. وعلى الرغم من ذلك يطرح السؤال: لماذا يذبح المسيحيون من جديد وتحرق كنائسهم؟ ماذا فعلوا لكي يشنّع عليهم ويسلخوا من جذورهم التي تكوّنوا بها مثلما بدورها اصطبغت بهم؟ ألهذه الدرجة يستحقون الموت المريع؟

في الجوهر لم يقدّم المسيحيون سوى الحبّ، ويستذكر المسلمون الذائقون للطف العيسويّ، والمنتسبون للإسلام القرآنيّ ما أنزل في كتابهم الكريم حول مريم، وحول النصارى، ومنها تلك الآية: "لتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" (سورة المائدة82). ليس الهدف من تبيان تلك الآية سوى القفز نحو رؤية تختصّ بالتفاعل ما بين الإسلام القرآنيّ والمسيحيّة المشرقيّة في مشيئة الوجود بوجه الذين خرجوا عنه وقرروا تفجيره بتوظيف العنف، وكأنه سمة دينيّة وإلهيّة، فيما هو سمة المجرمين وحدهم.

وفيما العنف يعصف ما بين العراق وسوريا، ويطال المسيحيين مقتلاً وتهجيرًا، خرجت مجموعة صغيرة مسيحية تمتاز بعمق إيمانها وبعد تفكيرها وحصافة رؤيتها، إلى مذاكرة صامتة في زمن الصيام متسائلة عن هذا الجور الذي يطال المسيحيين منذ أزمنة طويلة إلى الآن. لم تنحصر المقاربة في تاريخانيّة الحضور المسيحيّ بسياقه الجامد، إنما ربطته بسرّ صلب المسيح، الذي وإن كان في المعنى اللاهوتيّ مرسومًا في فكر الله منذ الأزل من أجل الخلاص، غير أنّه دلّ على مؤامرة خاضها قوم لا يزال وجود المسيح في التاريخ بنصره يخضّهم ويقلقهم ويرعبهم. واعتبرت المذاكرة بأن ليس من مشكلة بين المسيحيين والمسلمين لكون سياقهم توحيديًّا في إسلامهم لله، وإبراهيميًّا في الجذر، بل المشكلة تبقى مع اليهود التائقين لزوالهم من هذا المشرق منذ أن فرغ القبر من المسيح المصلوب، فما كان من رؤساء الكهنة والفريسيين سوى أن صرفوا مالاً على من حرس القبر، داعين إيّاهم للقول لقد سرق فيما كنا نيامًا. إسقاط ذلك في الزمن الحاضر وفي اللحظة التي يهجّر المسيحيون من الحسكة وغيرها، يكشف بأن الحرب دينيّة بامتياز في زعم صمويل هانتنغتون بأنّ المستقبل للدين. ويخوضها اليهود ليس ضد المسيحيين فحسب ولكن ضدّ المسلمين بمذاهبهم مستخدمين تلك العناصر التكفيريّة والإرهابيّة تحت ستار الإسلام فيما معظم المسلمين يرون هذه الظاهرة غير معنيّة بكتاب الله وما أنزل من آيات بيّنات، وما استخدام الرايات السوداء سوى استخدام توظيفيّ سياسيّ وأمنيّ، وليس معبّرًا عن الذات الإسلامية في توقها لله.

هذا يقتضي بصورة واضحة، ثورة فقهيّة، مثلما يقتضي قتالاً غير محدود لهؤلاء في المدى الإسلاميّ. هناك إزائيّة مطلوبة ما بين الثورة الفقهية وبين القتال الميدانيّ، لكون الثورة الفقهيّة من شأنها أن تعيد كليّة المعنى ليذوب في التراث الكليّ الإسلام بلغة حديثة. خطورة الأمر أن الأئمّة كما النخب المفترض أن تكون فهيمة لم يقفوا عند مشهد تجزئة المعنى بسلخه عن التراث الكليّ للإسلام، فالمعنى هو الركن الجوهريّ للتراث ومن دونه ينتزع من بهائه ويصبح خارج السياق. وقمّة الخطورة أن تفرض الحركة الصهيونيّة تلك العناصر السوداء في قلب الإسلام لتبدو الناطقة باسمه خارج سياق المعنى العقيديّ وتقتل باسمه، وتقيم الحكم باسمه.

ليس هذا ما ينتظره المسيحيون فقط، إنّما هذا ما ينتظره مسلمون عديدون في قراءتهم لمستقبل الإسلام. فالأزهر في آخر إطلالة له وبعد قتل منذر الكساسبة حرقًا، دعا إلى قتل الدواعش وكل من ينتسب إلى تلك الحركات، مفكرون مسلمون بدورهم بدأوا يلفظون هؤلاء من رؤاهم. غير أن إبادة المسيحيين من الموصل وسهل نينوى وقرى شرق نهر الخابور والحسكة وخطف مطرانين وكهنة وقتل كهنة ومطران في العراق لم يبلغ نحو تحريك المراجع الإسلامية ورؤساء الدول بصورة عامّة، وهذا ما يبدو خطيرًا في منهجية الأحداث السائدة وتراكمها في المنطقة. المسيحيون المذبوحون، المعلّقون على صليب هذه المأساة ينتظرون قولة الحقّ، بل ثورة الحقّ في قلب المعنى الكليّ للإسلام، وفي قلب المعنى العربيّ والمشرقيّ الكامل الذي أجمع عليه المسيحيون والمسلمون في مدى عروبتهم ومشرقيّتهم. خطورة الأمر أن تبدو إسرائيل المتحكّمة (بأل التعريف)، بالسياق المسيحيّ لوحده، ومن ثمّ السياق الإسلاميّ لوحده، وجمع السياقين في رؤية واحدة، وهي تستغلّ كلّ ذلك لتفريغ المشرق العربيّ منهم طبقًا لمخطّط عائد لرؤية تيودور هرتسل القديمة ويجسّدها في أميركا ذلك الفريق المتطرّف الذي يواجهه باراك أوباما، مثلما يواجه وفي الوقت عينه بنيامين نتنياهو. وما حرق كنيسة جبل صهيون في القدس والمقدّسات الإسلامية من قبل المتطرفين اليهود سوى جزء من هذا المخطّط الخطير الذي يقلب كلّ المعاني من جوفها.

يبقى الكلام في المعنى المسيحيّ، والمسيحيون في زمن صوم ارتقابًا لقيامة ساطعة وبعضهم رفعوا أيقوناتهم البارحة في كنائسهم للتأكيد على حقيقة إيمانهم. إن ثورة المعنى في المدى المسيحيّ تبقى الأعمق من الوجود البيولوجيّ الفارغ. المعنى هو الجوهر لأنّه بالشكل والمضمون هو المحدّد للوجود، وخلاف ذلك يبطل الوجود. لقد حفّز المعنى المسيحيّ في التاريخ المسيحيين المشارقة لكي يظلوا راسخين في الأرض على الرغم من قساوة الاضطهاد. وليس لهم اليوم سوى التجدّد بهذا المعنى لأنّه الحافز الوحيد على البقاء وتحقيق الوجود. فهم بهذا المعنى أيقونات الوجود.