لم يعد "الفراغ" الذي تعاني منه "دولة القانون والمؤسسات" مقتصرًا على سدّة الرئاسة. انتقلت "عدواه" لتشمل كلّ شيء، من المؤسسات المتنوّعة، إلى السلطات المختلفة، مرورًا بالأشخاص، وحتى بالأحزاب والتيّارات، التي يفترض أن تكون مصدر غنى في المجتمعات الديمقراطية، بالفعل لا بالقول.

تحت عنوانٍ وهمي وشعارٍ مزعوم أساسه "الاستقلالية"، بدأت تظهر في الآونة الأخيرة تجمّعاتٌ من نوع آخر، تجمّعاتٌ تدّعي محاربة "الإقطاع" ومواجهة "الفساد"، بل تذهب لحدّ احتكار "المصلحة الوطنية"، فيما هي في الواقع "وليدة" هذا النظام و"وريثته الشرعية" شاء من شاء وأبى من أبى..

نموذجان "مستقلّان"..

خلال الأيام القليلة الماضية، ظهر نموذجان "فاقعان" لما يُسمّى "استقلالية". تمثّل النموذج الأول بالتجمّع الوزاري الذي جمع وزراء "الكتائب" وأولئك المحسوبين على رئيس الجمهوريّة السابق ​ميشال سليمان​، تجمّعٌ ضاع "عرّابوه" في "تسميته" بين "اللقاء المستقل" تارة و"المسيحيون المستقلون" تارة أخرى، وإن حرصوا على إزالة صبغة "التحالف الاستراتيجي" عنه. صحيح أنّهم أثاروا استياء "أقرب المقرّبين" منهم، لكنّ هدفهم كان "أسمى"، وقد حمل عنوان "لا للتطبيع مع الفراغ"، فسعوا للظهور بمظهر الحريصين على موقع الرئاسة، الذي يكاد يهمّشه من يدّعون "احتكار" التمثيل المسيحي في البلاد.

أما النموذج الثاني، فتمثل بولادة ما سُمّي أيضًا وأيضًا بـ"التيار المستقلّ" بقيادة نائب رئيس الحكومة الأسبق اللواء عصام ابو جمرا، الخارج من رحم "التيار الوطني الحُرّ"، ونواته شباب "حرّ ومستقلّ" يتوخّى الوقوف بوجه "كل الذين ينهبون الدولة ويسيطرون على خيراتها". وإذا هذا التيّار ليس سوى آخر "نسخة" من سلسلة "التيارات المستقلة" أو "الوسطية" التي تزخر بها البلاد، وإن كان يصفها كثيرون بأنها "بلا لون ولا طعم"، فإنّه، وعلى حدّ تعبير "قائده"، يهدف الى بناء لبنان السيد الحر المستقل القوي والقادر لذاته.

الاستقلالية.. خصومة عون؟

لعلّ "المفارقة" التي لا يمكن لأيّ قارئ لهذه التجمّعات "الوليدة" إلا أن يلاحظها بالعين المجرّدة ومن دون كثيرٍ من العناء، هي أنّ ما يجمعها يكاد يكون واحدًا، ألا وهو "الخصومة" مع رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون. وفي هذا السياق، تسأل مصادر متابعة عمّا إذا كانت "القاعدة الذهبية" للاستقلالية في هذا الزمن هي "الاختلاف" مع "الجنرال" أولاً وأخيرًا، وكأنّ هناك من يريد أن يقول أنّ التموضع إلى جانب عون هو "تبعيّة"، وخلاف ذلك هو "استقلالية"، بغضّ النظر عن كلّ التفاصيل.

برأي المصادر، فإنّ مدّعي "الاستقلالية" لا يمتّون إليها بصلة، وفي مقدّمة هؤلاء، حزب "الكتائب"، وهو حزبٌ لبنانيٌ عريق، كما يعرف القاصي والداني، ولهذا الحزب مواقف معروفة واصطفافاتٌ واضحة وجلية، بحسب المصادر، التي لا تستبعد الحسابات "الانتخابية" عن سلوكياته الأخيرة، خصوصًا في ضوء استثنائه من الحوار المسيحي-المسيحي القائم على الساحة، والذي يخشى "الكتائبيون" أن يكون على حسابهم.

أما رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان فهو الآخر ليس "مستقلاً"، ليس فقط في عيون "خصومه المستجدّين" في قوى الثامن من آذار، بل في عيون "حلفائه" في قوى الرابع عشر من آذار، الذين لم ينكر سليمان نفسه "قربه منهم"، حين قال أنّ "تطابق" المواقف بينه وبينهم يعني "أنّهم على حقّ"، علمًا أنّ المصادر تشير إلى أنّ الرئيس السابق، الباحث عن دورٍ له في هذه المرحلة، وضع العماد عون نصب أعينه، منذ أيام "الرئاسة"، بل إنه يحمّله مسؤولية عدم التمديد له، والذي كان يمنّي النفس به حتى اللحظة الأخيرة.

ويبقى اللواء عصام أبو جمرا، الذي لا يمكن أن تكون "خصومته" مع عون محور أخذ وردّ، وهو الذي حمل في بيان التأسيس لتياره "المستقلّ" بشدّة عليه من دون أن يسمّيه، متهمًا إياه بـ"الارتهان لمحور خارجي" تارة وبأنه "أصبح معقل الإقطاع واستهواه المال" تارة أخرى، علمًا أنّ هذه "الخصومة" بدأت، كما تقول المصادر، بسبب "السلطة" أولاً وأخيراً، ويذكر الجميع "انتفاضة" اللواء بعد خروجه من حصة "التيار" الوزارية، وذلك رفضًا لـ"الأفضلية" التي أعطاها عون لـ"غير المحازبين" على حساب غيرهم.

لا تعليق..

يرفض "التيار الوطني الحر" التعامل مع هذه القضية بأسلوب "الشخصنة". من هنا، فإنّ مصادره تنأى بنفسها عن كلّ الموضوع، وخصوصًا في الشق المتعلق باللواء أبو جمرا، وهي تحيل السائل في هذا السياق لـ"سجلّ" مواقف قياديي "التيار" منذ ما عُرِف بـ"انشقاق" الرجل. رغم أنّ التيار ورئيسه كانا دائمًا عرضة للقصف المتواصل من أبو جمرا، إلا أنّ قياديي "التيار" حرصوا على تحييده وتجنّب الدخول في سجالٍ معه، كما تؤكد المصادر، احترامًا للتاريخ النضالي المشترك، وهو أمرٌ لن يتغيّر اليوم في المبدأ، وإن كانت لا تخفي أنّ كلام أبو جمرا بات يثير "امتعاضًا شديدًا" في صفوف التيار، سواء من جهة القيادة أو القاعدة.

في مطلق الأحوال، وعلى الرغم من أنّ المصادر ترفض التعليق على هذه "التجمّعات" التي تنشأ هذه الأيام، فإنّها تدرك أنّ "الشجرة المثمرة هي التي تُرمى بالحجارة"، وبالتالي فإنّها تنطلق من هذه "المعادلة" لتفسير الحملات المتتالية التي يتعرّض لها "التيار". وإذ لا تجد جدوى من التذكير برأيها بما يُسمّى "استقلالية" و"وسطية" أو "رمادية" في عالم السياسة، وهي التي لا تؤشر سوى إلى غياب الرؤية السياسية بكلّ ما للكلمة من معنى، فإنّها تشدّد على أنّها تدلّ على "إفلاس سياسي" انحدر إليه كلّ المتضرّرين من "التيار" وسياساته "الانفتاحية"، خصوصًا في ضوء الحوارات الثنائية التي فتحها سواء مع رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري أو رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، وفي ضوء تمسّك حلفائه ولا سيما "حزب الله" به في كلّ الظروف.

وتقول المصادر: "يبدو أنّ هناك من بدأ يفقد أعصابه، وهو يقرأ المعطيات ويسمع التحليلات التي تكاد تجزم بأنّ عون بات أقرب من أيّ وقتٍ مضى إلى قصر بعبدا، وبالتالي فإنّهم يسعون بكلّ ما أتوا من قوة لعرقلة ذلك"، وتضيف: "نحن لن ننجرّ لسجالاتٍ لا طائل منها الآن، والأفعال هي الأساس بالنسبة إلينا في هذه المرحلة، أما الكلام فالكلّ يدرك أنّه يبقى كلامًا، وبالتالي فهو لا يقدّم ولا يؤخر".

شعار يختبئون خلفه؟!

لا شكّ أنّ "الاستقلالية" هي مطلبٌ ثابتٌ في كلّ المجتمعات، ولا شكّ أنّ لبنان أكثر من غيره يحتاج لظهور كياناتٍ مستقلّة بكلّ ما للكلمة من معنى، لتخرق المشهد "المُحتكَر" من طبقةٍ واحدة لا تبحث سوى عن السلطة.

ولكن حين تكون "الاستقلالية" مجرّد شعارٍ يختبئ بعض من هو "جزءٌ لا يتجزّأ" من هذه الطبقة خلفية لتصفية حسابات أو مواجهة خصومه، فإنّ الأكيد أنّ مصيره سيكون الزوال حتمًا، عاجلاً أم آجلاً!