تخيّلوا ماذا كان يفكر الرئيس الأميركي ​باراك أوباما​ حينما كانت تأتيه المعلومات عن خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية ​بنيامين نتانياهو​ أمام الكونغرس. كان حينها يجري اتصالات بقادة أوروبيين للحديث عن أهمية الاتفاق المرتقب مع إيران. تخيلوا ضحكة أوباما عندما وصله حديث نتانياهو عن وجوب تغيير مشروع الاتفاق النووي. وكيف كانت ردة فعله وهو يردد: فليقدم لنا "بيبي" بديلاً.

كان أوباما راضيًا عن انسحاب حوالي 60 عضواً ديمقراطيا من جلسة الكونغرس احتجاجاً على خطاب رئيس الوزراء الاسرائيلي. هي سابقة أولى من نوعها. المسألة باتت تتعدى العوامل الشخصية بين أوباما ونتانياهو. النزاع بدأ يتجذر لرسم معادلة جديدة في العلاقات بين واشنطن وتل ابيب، مع علم الادارة الأميركية بأن منظمة "إيباك" لن تسمح بتدهور تلك العلاقة. سبق وأن قامت برأب الصدع. المنظمة الأنشط في الولايات المتحدة حشدت 16000 شخص لحضور كلمة نتانياهو في مؤتمرها. في الخطابين حاول نتانياهو استعطاف الأميركيين في الشكل والتذكير بأن الروابط عميقة بين حليفين. لكن في المضمون كان هدفه الناخب الاسرائيلي. أوباما يعلم مقصد رئيس الحكومة الإسرائيلية. يعرف أيضاً بالمقابل ان السواد الأعظم من الأميركيين يؤيدون خطواته التفاوضية مع ايران. هم يريدون سلاماً لا حروباً. إرهاب التطرف الاسلامي يقلقهم. هم يخافون ان تنتقل العدوى من الشرق الاوسط واوروبا الى ولاياتهم. أوباما نفسه استند الى نتائج استطلاعات الرأي العام. لذلك بدا قبل وخلال زيارة نتانياهو الى واشنطن مدافعاً شرساً عن قناعات الديمقراطيين.

تخيلوا هنا أيضاً أن الرئيس الأميركي فكّر أثناء كلمة نتانياهو بالإتصال بالرئيس الإيراني ​حسن روحاني​. ماذا كان سيقول الإثنان؟

سيكرر روحاني الحديث عن ضرورة رفع العقوبات عن بلاده دفعة واحدة لإقناع الجمهور الإيراني بالخطوة التصالحية التاريخية. سيرد أوباما بأنه يرغب بذلك، لكن يريد تطبيق الاتفاق ببنوده الفنية أولاً. سيقول أيضاً: رويداً سماحة الشيخ.. اننا نحقق خطوة متقدمة ستدخلني انا وانت الى التاريخ. ستغير التعاطي الدولي مع بلادكم، ستفتح المجال لكم لتوظيف الاستثمارات وفرض انجازاتكم تدريجيا على مساحة العالم. ستضمن لإيران اتساعاً في المكاسب. فأنتم تتحالفون مع الروس والصينيين ودول "البركس" وتقيمون علاقات ناشئة واعدة مع كل الدول الاوروبية. أنتم تتمددون في الشرق الأوسط رغم نزاعات "الربيع العربي". سيذكّر أوباما نظيره الإيراني بأنهم يخوضون حرباً جنباً إلى جنب في العراق، فيؤمّن الطيران الأميركي تقدم حلفاء طهران في محافظة صلاح الدين. قد يسأل أوباما عن أوضاع قائد فيلق القدس قاسم سليماني: ماذا أنجز؟ وهل سينتقل الى سوريا من جديد؟

سيقول أيضاً أوباما لروحاني: منذ الآن وصاعداً ستربطكم بالغرب اتفاقات لن تبقى حدودها ضمن المساحة النووية.

تخيّلوا حينها ماذا سيكون جواب الرئيس الإيراني؟

سيبلغ أوباما عن فرح الشعب الإيراني بإنجاز حكومته. في الأسابيع الماضية صوّب "المحافظون" على وزير الخارجية محمد جواد ظريف في طهران نتيجة تمضية وقته الى جانب نظيره الأميركي جون كيري في جنيف. لكن روحاني يستند اليوم الى خطاب نتانياهو للدلالة على أهمية الإنجاز الإيراني في مشروع الاتفاق النووي. سينتبه الإيرانيون الى ردة فعل عدوّهم الاسرائيلي والتحريض الذي مارسه نتانياهوفي الكونغرس ضدهم للجزم بأن الاتفاق المرتقب يصبّ في مصلحة طهران. لن يجد روحاني أفضل من خطاب نتانياهو دليلا على صحة خياراته. سيُسكت به المنتقدين والمتشددين داخل الجمهورية الاسلامية.

تخيلوا أيضاً ماذا ستكون ردة فعل أوباما خلال اتصاله بروحاني. سيقول له: خطاب "بيبي" سيريح حُكماً المرشد السيد علي خامنئي، لن يضغط عليك كثيراً بعد مشهد الكونغرس. لكن سيطلب عندها أوباما من روحاني ان تخفف ايران مطالبها، كي يجري توقيع الاتفاق بعد أسابيع. ينتهي الاتصال على أمل الاعلان عن خطوات جريئة بعدما ضرب اوباما اعتراضات نتانياهو بعرض الحائط.

تخيلوا من سيتصل بالبيت الأبيض بعد كلمة نتانياهو. سيكون "اليسار الاسرائيلي الوسط" اول الشاكرين للادارة الاميركية التي تساهم في منع فوز نتانياهو في الانتخابات المقبلة. بالنسبة اليهم تحدي تل ابيب للبيت الأبيض لا يفيد. فإن حكمت الأزمات علاقة الإسرائيليين بالأميركيين على الأقل خلال ما تبقى من ولاية أوباما، سيتكرس لأول مرة التباعد بين واشنطن وتل أبيب. عندها لن تعود العلاقة وثيقة الى الحدود المقدسة كما كانت. سيحمّل الإسرائيليون المسؤولية لرئيس حكومتهم. قد يحاسبونه في الانتخابات المقبلة بعد أسابيع. أساساً لم يجدوا فيه مكسباً بإستثناء ما حققه لهم من استكمال بناء المستوطنات.

فشل نتانياهو في ضرب الاتفاق المرتقب بين الغرب وطهران. كانت تراهن عواصم عربية على اعتراض رئيس الحكومة الإسرائيلية للحد من تمدد الإيرانيين، لكن ماذا ستفعل الآن؟ هل يكفي بناء "قوة إسلامية" لتحقيق التوازن الإقليمي مقابل محور إيران؟ للمرء أن يتخيل ما هي التداعيات للاتفاق النووي على المساحة الإقليمية. قد يكون الميدان العراقي نموذجاً. لِم لا؟ فلننتظر.