محافظًا على ماء وجهه يعود رئيس الحكومة الى بيته الوزاري. فهو الذي لم تنجح أيٌّ من تلويحاته في الصمود يومًا، لا يمكنه إطالة “حردته” التي تشلّ المجلس. الرجل المسالم فعل ما عليه ولكن الجواب لم يأتِه على شكل آليةٍ جاهزة تريح رأسه وتلقى مباركة جميع الأطراف. لم تفلح كلُّ المحاولات بإعلان انتصار المادة 65 من الدستور نهائيًا، ولكن الوزراء الـ23 أبوا أن “يكسروا” في خاطر الرجل المتحمّس لقيادة البلاد بصلاحياتٍ مضاعفة، فأفتوها “أخلاقيًا".

بآليةٍ تعديلاتُها (إن صحّ إطلاق تسمية تعديلات عليها) “نحيلة” تعود الحكومة لتلتئم بتعهداتٍ سبق للرئيس تمام سلام وحصل عليها في غير مناسبة، ولكن هذه المرة ستكون مختلفة على ما تؤكد مصادر مواكبة لمشاورات الآلية لـ “​صدى البلد​”، مشددة على أن “الكيل طفح من النكايات السياسية المُنتهجة والتي لن تكون مقبولة بعد اليوم في الحكومة كيفما كان لحساباتٍ شخصيّة، من هنا كان لا بدّ من إسقاط عنصر الفردية من تعطيل المراسيم والقرارات والإبقاء على صيغةٍ إجماعية ملطّفة لا تستبعد أحدًا ولا تقصي دور أحد وتقتضي الإجماع في الأمور الأساسيّة، من دون السماح لوزير واحد بشلّ عمل المجلس كما حصل طوال الأيام الفائتة. وعليه، التعويل الأكبر لنجاح هذه الآلية القديمة-الجديدة قائمٌ على التزام كلّ فريق عدم التصويت الاعتراضي اعتباطيًا لرغبةٍ في نفسه أو نكايةً بكتلةٍ أو وزير، بل تسجيل اعتراضه كشخص أو ككتلة من دون أن يعني ذلك حكمًا تعطيل المجلس وقراراته ومراسيمه".

بوحي اجتهادي...

هي حكاية المادة 65 ولكن بطريقة اجتهادية. فالاتفاق لا يعلن صراحة تبني تلك المادة رغم أنها تحمل في طياتها تعقيداتٍ جمة على مستوى إغفال تفصيل ممارسة الحكومة لصلاحيات رئيس الجمهوريّة الغائب، إلا أنه يستوحي منها آليته الجديدة لجهة اللجوء الى الأكثرية العادية في المواضيع التي لا تتطلب ثلثي الأصوات. ورغم أن كثيرين من الوزراء يدخلون مكرهين غير راضين عمّا توصّلت اليه المشاورات، ويؤثرون الصيغة الإجماعية غير المشروطة، إلا أن اتصالات الأيام الأخيرة التي كان سلام بطلها على ما علمت “صدى البلد” مع رؤساء الكتل حالت دون المضي في تدمير العهد الحكومي “السلامي”، وفي إنقاذ الوضع باتفاق شفوي يكاد يشبه عقدًا تجاريًا قائمًا على “كلمة شرف” أو Gentle Agreement بين سلام وقادة المكوّنات الحكومية وأبرز بنوده: الاعتراض عن حقّ لا لأجل الاعتراض والحفاظ قدر المستطاع على الأمانة الرئاسيّة في سلطةٍ تكاد تكون الوحيدة “الواقفة على قدميها”.

"بالتي هي أحسن"

تعيد أزمة الآلية الى أذهان اللبنانيين حكاية البيان الوزاري للحكومة نفسها والذي عطّلته كلمة واحدة أعجزت “جهابذة” اللغة قبل أن يولد حلٌّ ترقيعي على قاعدة “بالتي هي أحسن”. اليوم يبدو أن رقعة الترقيع اتسعت لتطاول الآلية الحكومية الإنقاذية بحيث أن كلّ وزير لن يمتلك إلا حقّ التحفّظ لتسجيل موقفٍ شرفي أمام زملائه والرأي العام من دون أن يمتلك ورقة التعطيل الذي نادرًا ما سيقع إلا متى اعترضت كتلة طائفية لا سياسية على أي قرار أو مرسوم يمسّها في الصميم. وعلمت “صدى البلد” أن “الوزراء سيدخلون السراي اليوم غير واثقين من الصيغة النهائيّة للآلية، وهو ما سيفتح المجال أمام نقاشاتٍ بنّاءة قد يُستخلَض منها على الفور مشروع آلية تُعتمد طوال عهد حكومة سلام مع فتح باب للاستثناءات في الملفات الاستثنائية التي يحددها الوزراء أنفسهم والتي لا يمكن أن تمر من دون إجماع يكتسي صفة “الإجماع الوطني".

عودة الى المادة 65

على المستوى الدستوري، قد يكون كل ما يخرج به أرباب السلطة التنفيذيّة مجرّد اجتهادٍ يلامس الدستور ولا يصيبه في العمق بذريعة تلافي شلل المؤسسات، وهي الذريعة التي باتت أشبه بمضغةٍ للمارين قرب الدستور والقوانين مرعية الإجراء. وفي هذا المضمار، يؤكد المرجع الدستوري والقانوني بول مرقص لـ “صدى البلد” أن “المادة 65 من الدستور اللبناني التي تنظم سير عمل مجلس الوزراء حددت طريقتين لاتخاذ القرارات فيه: إما أن يتم بالتوافق (وفي هذه الحالة يوجد إجماع بفعل التوافق) وفي حال تعذر التوافق فبالتصويت إما استناداً إلى أكثرية الحضور وإما إلى ثلثي عدد أعضاء الحكومة- وليس فقط الحضور - وذلك حسب المواضيع المطروحة، إذ تنص الفقرة 5 من المادة 65 على أن “مجلس الوزراء يجتمع دورياً في مقر خاص ويترأس رئيس الجمهورية جلساته عندما يحضر. ويكون النصاب القانوني لانعقاده أكثرية ثلثي أعضائه، ويتخذ قراراته توافقياً. فإذا تعذر ذلك فبالتصويت، ويتخذ قراراته بأكثرية الحضور. أما المواضيع الأساسية فتحتاج إلى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها. ويعتبر مواضيع أساسية ما يأتي: تعديل الدستور‎، إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقات والمعاهدات الدولية، الموازنة العامة للدولة، الخطط الإنمائية الشاملة وطويلة المدى، تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، إعادة النظر في التقسيم الإداري، حل مجلس النواب، قانون الانتخابات، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية، إقالة الوزراء”. ولما كانت المادة 65 لا تنص على الإجماع في معرض ممارسة الحكومة لأي من صلاحياتها، وبشكلٍ أَولى، لما كانت المادة 62 من الدستور التي تنيط صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء، لا تحدّد نصاباً وبالأخص “إجماعاً” لممارسة هذه الصلاحيات، وبما أن التأويل أو التفسير في معرض النص الصريح غير جائزين، كان لا بدّ من الاحتكام إلى المادة 65 في كل مرة تتم فيها الإحالة إلى مجلس الوزراء بموجب الدستور".

رأيان فقهيّان

ويردف مرقص: “بعدما تمّ الإتفاق في حكومة تمام سلام أخيراً على صيغة معينة في مجلس الوزراء تصدر بموجبها المراسيم ممهورة بتوقيع جميع الوزراء الذين يودون ذلك، ولما كان إصدار المراسيم من مجلس الوزراء من دون إجماع في ظل الخلو في سدّة الرئاسة قد سبق وتم اعتماده بعد انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود حين قام مجلس الوزراء حينها برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة ورغم افتقاره إلى سبعة وزراء وفقا لمرسوم تشكيل الحكومة (ستة وزراء يمثلون الطائفة الشيعية والوزير الأرثوذكسي يعقوب الصراف) بممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية ومن بينها إصدار المراسيم، وفي معرض بحثنا عن صوابية هذا الرأي، وقعنا على العديد من الآراء الفقهية المؤيّدة لا بل وقعنا على قرارات قضائية مؤيدة له وصادرة عن مجلس شورى الدولة في لبنان اعتبرت أن المراسيم التي اتخذتها حكومة العماد ميشال عون الانتقالية والموقعة منه بصفته رئيساً لمجلس الوزراء ومن عدد من الوزراء المختصين هي صحيحة ولا يعيبها عدم توقيع اثنين من الوزراء الباقين عليها لعدم حضورهما جلسة مجلس الوزراء. أما الرأي الفقهي الثاني والذي يتبنّاه عدد قليل جداً من القانونيين، فهو أكثر تشدّداً في الحرص على صلاحيات الرئاسة لكنه يعوق عجلة الحكم لأنه يشترط موافقة جميع الوزراء".

لا إجماع بلا نص

ويشدد مرقص على أننا “من دعاة تطبيق المادة 65 من الدستور باعتبار ممارسة صلاحيات الرئيس – ممارسة موقتة- لا يمكن أن تتم بالأكثرية العادية لعدم الاستهانة بهذه الصلاحيات، كما لا يمكن أن تتم بالإجماع لعدم تكبيل عجلة الحكم وتعجيز السلطة و”لأن لا إجماع بلا نص” و”لا إجماع في السياسة”، نرى أن تمارس الصلاحيات بأكثرية الثلثين على اعتبارها من المواضيع الأساسية قياساً على التعداد اللاحصري المنصوص عليه في المادة 65. أما تشريع آلية خاصة طويلة الأمد فهو غير دستوري لأنه تشريع للشغور في الرئاسة".

«من قلة الموت»

بأيّ روحيّة لا يهمّ. المهم أن سلام تجاوز مطبًّا استسلاميًا جديدًا على درب وضع حدّ لحكومةٍ يبدو أنها، وعلى تناغمها المزعوم بحدّه الأدنى، تعيش من قلّة الموت. تعيش بحكم غياب الرئيس وبآلياتٍ “مرقّعة” قائمة على كلامٍ شرفي تضمن صمودها “بالتي هي أحسن” من دون مفاجآت...