تنتصب مريم في بشارتها في لحم الزمان الحاليّ، والناس جائعون إلى مريميّة طهور تنساب في أزمنتهم كالعطر، وتتسلل كالنور في بواطن ظلماتهم، وتتسلسل كالجداول العذبة في صحرائهم، لتبشّرهم بقيامة آتية ساطعة مع فجر أوّل أيّام الأسبوع.

تركّز المسيحيّة في البشارة على أنّها الخبر السّار كما تعني الكلمة في أصلها اليونانيّ Evangelos ومنها نحتت لفظة الإنجيل Evangile بالفرنسية وBible بالإنكليزيّة. الخبر السّار بهذا المعنى أن يسوع، وهو الكلمة الكائن في أحضان الآب منذ الأزل، قد صار في حشاء مريم آخذًا طينتنا، ومتسربلاً بشريّتنا، حتّى قال يوحنّا الإنجيليّ الحبيب وبحسب الترجمة اليونانيّة القديمة الملامسة للترجمة العربيّة بالحيّز التجسيديّ: "الكلمة صار جسدًا ونصب خيمته في حيّنا". الثورة الكونيّة في البشارة، تفجّرت من تلك المحاكاة بين أزلية الله وطهر مريم، وهو طهر مريميّ، حيث جاءها جبريل رئيس الملائكة وبشّرها بالحبل. ليس أبلغ من ذلك الوصف المقروء في إنجيل لوقا: "في الشهر السادس أرسل الله الملاك جبرائيل إلى مدينة في الجليل اسمها الناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم. فدخل إليها وقال: إفرحي أيتها الممتلئة نعمة، الرب معك. فداخلها لهذا الكلام اضطراب شديد، وسألت نفسها ما معنى هذا السلام. فقال لها الملاك: "لا تخافي يا مريم، فقد نلت خظوة عند الله. فستحبلين وتلدين ابنًا تسمينه يسوع. هذا سيكون عظيمًا وابن العليّ يدعى، ويوليه الرب الإله عرش أبيه داود، ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولن يكون لملكه نهاية". فقالت مريم للملاك: "كيف يكون هذا ولم أعرف رجلاً؟" فأجابها الملاك: "إنّ الروح القدس ينزل عليك وقوّة العليّ تظلّلك، لذلك يكون المولود قدّوسًا وابن العليّ يدعى" (لو1: 26-59). الكلمة الذي زرع في بطن مريم هو الثورة ومريم هي الإنجيل القديم الذي حوى الإله في جوفه، كما الإنجيل المقروء اليوم حاويه في جوفه من خلال الإنجيليين الأربعة ورسائل بولس.

لقد تمّ التأسيس في البشارة للكون الجديد بالناصريّ. لم يكن ممكنًا في عقل الله أن يتمّ هذا التأسيس بلا نزوله هو بصورة يسوع الناصريّ، وبلا حضور مريم في التاريخ. يتكثّف من ذلك كلام على أن مريم بهذه الصورة قد غدت حواء الجديدة كما يسوع هو آدم الجديد، هذا تعبير وتصوير للمناجاة بين الأرض والسماء، للمصالحة الأبديّة التي تمّت بتجسّد المسيح من مريم وموته وقيامته.

بشارة مريم غير محصورة في المسيحيّة، وفي فهم المسيحيين وذوقهم، أنّ إتمام معنى البشارة والتجسّد قد تمّ حين رفع المسيح على الخشبة وسفك دمه لمغفرة الخطايا. جسده الذي انكسر فوق الجلجلة ما كان فقط من جسد مريم، بل هو جسد المشرق، ودمه الذي يسفك هو دم الله فوق تلّة الجلجلة أي فوق هضاب المشرق، ليس بأتباعه هو، وبالمريميين المنتسبين إلى أمومة العذراء التي ظلّت قبل الولادة وبعدها عذراء، بل بكل ذبيح ومشرّد وخائف. دم كل ذبيح هو دمه، وهتك المشرق بجغرافيّته، هو بكلّ ما للكلمة من معنى هتك له. يسوع ومريم اليوم قائمان في عمق المأساة الجامعة بين كلّ المؤمنين الموحّدين بالله، والآتين منه سواء بالإنجيل أو القرآن، ونحن مؤمنون بأنّه إذا كان المسيح كلمة الله المتجسد وإذا كان القرآن كتابًا قد أنزله الله وسكنه بكلماته فالمسيح بهذا المعنى هو قرآننا.

في هذا الزمان تتجلّى البشارة بدورها في القرآن الكريم على أبهى ما يكون بهذه الصورة التالية: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَاجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا" (سورة مريم 15-23). هذا البهاء القرآني الناطق بالبشارة كثيف في الوصف المنزل من فوق، ويستكمل الوصف عينه بجمال واضح في صوم مريم حين قال الله لها بواسطة الملاك "قولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلّم اليوم إنسيًّا"(سورة مريم 26)... حتى ولد عيسى "قول الحقّ الذي فيه يمترون" "وبرًّا بوالدتي ولم يجعلني جبّارًا شقيًّا والسلام عليّ يوم أموت ويوم أبعث حيًّا". (سورة مريم 32-33).

طاعة مريم في المسيحيّة والإسلام واضحة، ذلك أن قبولها بالحبل أظهر المسيحيّة منها مباشرة، على الرغم من أنّه ليس من تسليم بمشيئتها لكونها لا تملك مشيئة من ذاتها أو لذاتها، بل التسليم يبقى للمسيح حيث في أيقونتها تشير دومًا إليه. غير أن التكريم لها يجيء من أمومتها المولودة من رحم طهارتها، فمنها أشرقت الفراديس وهبطت كالنيازك في دنيانا، وأمست المرأة وكما قال سفر الرؤيا الملتحفة بالشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبًا، حامل تصرخ من ألم المخاض". (رؤيا 12: 1-2)، ويكشف سفر الرؤيا عن مواجهة تلك المرأة المكرّمة مع تنين أشقر يقف أمام المرأة التي توشك أن تلد، وهو صورة عن الشرّ، "حتّى إذا وضعت ابنها البكر ابتلعه. فوضعت ابنًا ذكرًا، وهو الذي سوف يرعى جميع الأمم بعصا من حديد. وخُطف ولدها إلى حضرة الله، إلى عرشه" (رؤيا12: 4-5). ما يبدو ونحن في البشارة وقد ارتضى المسلمون أن يذوقوه هنيئًا وطيّبًا بسبب فهمهم العريق بأن اللطف العيسويّ المقترن بالعفاف المريميّ مدى لنحت ذاتية مشتركة في اللقاء ضمن فضاء الله الواسع، والبشرية الإبراهيميّة بالنسل الواضح توّحدت به واستنارت بنوره، والبشارة حالة انتماء جذريّة لهذا الفكر التوحيديّ القائم على لقاء المسيحيّة الساطعة في المشرق العربيّ وإسلام قرآنيّ منزل فوق تراب العرب. يعني هذا أن الصراع الدائر في زماننا، يمزّق الله بسياقات مارقة، فيقع صريعًا في صراعنا، وهو في الأدبيات المسيحيّة-الإسلاميّة رحمن رحيم حيّ وجبار وقويّ... والحرب التكوينيّة تحتمل أن يقول المسيحيون والمسلمون معًا، بأن ثمّة إبادة لله بالبشر والحضارات بالمكونات والمذاهب، فماذا يبقى إذا من التاريخ والوجود إذا صرع الله بهذا التنين الموصوف بسفر الرؤيا سواءً كان أشقرَ أو أسمرَ؟!

في عيد بشارة مريم، ثمّة حاجة ماسّة لفقه إسلاميّ يتبنّى فحوى البشارة في الإسلام ليصار إلى تعميمه، ومحاربة التكفيريين به ينطلق من رؤية السيد محمد حسين فضل الله القائل: "فليعش المسيحيّ مسيحيّته، والمسلم إسلامه، وليقبل كلّ واحد منّا نحو الآخر ليس بأفكار مسبقة بل بكتابه ومصادره ومراجعه، حتى يتأسّس الفضاء الواحد على المعرفة". أمّا الرأي الاخر فهو للأب ميشال حايك الذي رأى المسيح منطلقًا لكلّ الأديان ومصبًّا لها وهي تنتظره آتيًا وقد أتى وسوف يأتي. بشارة اليوم تجيء من هذه الروح في المواجهة مع هذا التنين الذي يفتك بنا حتى الموت، ولكنّا مؤمنون بأننا قياميون في البشارة على الرغم من هذا الجحيم.