حاول رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة في شهادته أمام المحكمة الدوليّة إعادة لبنان، وبالسياق السياسيّ، إلى مربّع ما قبل الحوار بتوظيف سياسيّ جليّ، جزء منه يتعلّق بالصراع الخفيّ داخل "تيار المستقبل" بين معتدلين مقتنعين بضرورة الحوار وجدواه في الظروف الحاليّة، ومتصلّبين حروفيين يرون أنّ السجال يوطّد تمسرحهم على الحلبة اللبنانيّة، وتقول بعض الجهات بأنّ التمسرح بحدّ ذاته يجيء من البوابة السعوديّة، في محاولة إدخال لبنان في الجوّ اليمنيّ المتشنّج والدقيق، على الرغم من القرار الدوليّ بترسيخ الاستقرار على أرضه وعلى أرض الأردن لاعتبارات عديدة ومختلفة، ويستفيد التمسرح عينه من الخلاف الواضح ما بين النظام الجديد في المملكة ورئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​، باستخراج الإخلاص والوفاء لهذا النظام ولو على حساب العلاقة التاريخيّة والعريقة ما بين المملكة ورئيس الحكومة الأسبق الشهيد ​رفيق الحريري​ والموروثة مع ابنه سعد.

ثمّة ما لا يمكن تصديقه في شهادة الرجل لا في الشكل ولا في المضمون، فالشكل يبدو جدًّا فاقعًا بكشفه هشاشة رفيق الحريري، فيما هو رجل صلب عميق. يكفي أنّه كان يخاطب بعض رؤساء الدول بأسمائهم، وله دالّة هائلة عليهم كالرئيس جاك شيراك... يكفي استذكار شهادة نائب رئيس المجلس النيابي السابق إيلي الفرزلي التي رواها، حين أمضى عطلة نهاية الأسبوع إلى جانب الوزير السابق محسن دلول في ضيافة رفيق الحريري وكيف اتصل الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرّف طالبًا وساطة الحريري في موعد لمشرّف مع الأميركيين وبعد ساعة من اتصاله بالرئيس الفرنسي حاك شيراك حصل مشرّف على الموعد. هل يمكن في الشكل إذًا ان نصدّق أن رفيق الحريري بكى على كتف فؤاد السنيورة بسبب كلام مزعوم قاس قاله الرئيس بشار الأسد له؟ وعلى افتراض أن هذا الكلام قيل، وعلى افتراض أن الحريري بكى، أليس معيبًا بحقّ رفيق الحريري وشهادته ومسيرته السياسيّة أن يظهره فؤاد السنيورة بالذات بهذا المظهر الهزيل والهشّ، والذي وبحسب عارفيه لا يعكس صورته الحقيقيّة والدقيقة المحفوظة في أذهان أقرب الناس إليه؟

أمّا في المضمون فقد نقل فؤاد السنيورة عن رفيق الحريري خلال رفقة الأوّل للأخير ما يحتاج لمزيد من التدقيق والتصويب، حيث قال له: "بتعرف يا فؤاد صرنا مكتشفين كذا محاولة لاغتيالي من حزب الله"، وأردف السنيورة قائلاً على لسان الحريري: "ما بيسترجوا يعملوا هيدي قصّة كبيرة". توقّف المراقبون مليًّا أمام تلك العبارة بلا تفهّم لعدم اكتفاء الدلائل على هذا القول سواءً في الشكل أو في المضمون، وذهب هؤلاء إلى التأمّل بخصوصيّة الكلام الوظيفيّة ليظهروا بأنّ فؤادًا يتوسّل بطاقة اعتماد سياسيّة في الإقليم المتفجّر بقوّة، والتوسّل غير محصور فقط بشخصه بل بمجموعة صقور آخرين يستولدون ذواتهم في الفلك عينه مقابل رؤية متّزنة صادرة عند شخصيات أخرى في "تيار المستقبل" من أمثال النائب سمير الجسر والوزير نهاد المشنوق. وفي هذا المجال يروى بحسب بعض المصادر العارفة، بأنّ القنبلة التي حاول السنيورة تفجيرها متّهمًا على لسان الشهيد رفيق الحريري باكتشافه محاولات لاغتياله من قبل الحزب، مرتبطة بغضب شخصيّ انفجر عند فؤاد السنيورة سببه استبعاد سعد الحريري له من رئاسة وفد "تيار المستقبل" للتفاوض مع "حزب الله"، واستبداله بمدير مكتبه نادر الحريري والمشنوق والجسر. فاحتسب السنيورة القرار هذا وكأنّه تحجيم واضح لحراكه السياسيّ المرتبط برؤى أخرويّة متشنّجة. وفي سياق متّصل، يروي سياسيّ مخضرم، كان قريبًا من رفيق الحريري، بأنّ الصفة التي أسبغت على السنيورة بأنّه الأقرب إلى الرجل، وقد قدّمته المحكمة بهذه الصفة، مبالغ بها جدًّا في سياق العلاقة بين الرجلين، ذلك أنّها تصدّعت أكثر من مرّة، بسبب بعض السلوكيّات المتّبعة من قبل هذا الأخير. هذا السياسيّ عينًا رافق رفيقًا في رحلة له إلى سردينيا، في لحظة كان يتمّ فيها تشكيل الحكومة قبل أن يترأسّها المغفور له رئيس الحكومة الأسبق عمر كرامي، وينسحب الحريري من عمليّة التكليف، في تلك الأثناء وكما روى السياسيّ المخضرم وفي سردينيا، أخرج الحريري ورقة الحكومة من جيبه ودعا ذلك السياسيّ لكي يقول رايه بها، فاستغرب الأخير عدم وجود فؤاد السنيورة في التشكيلة وسأله أين فؤاد لماذا ليس في هذه التشكيلة؟ فاجابه لقد قررت أن أعيده إلى العمل المصرفيّ وأريحه من العمل السياسيّ، وطلبت من نازك الاتصال برئيس مجلس إدارة البنك العربي عبد الرحمن شومان حتّى يعين في المصرف كمستشار ماليّ. لقد استنتج ذلك السياسيّ المخضرم، بأن الشهيد لم يستبعده لإراحته من العمل السياسيّ بل لأنّه ضاق ذرعًا من تصرفاته وسلوكياته، ويعتقد هذا السياسيّ بأنّ للسنيورة وظيفة محدّدة داخل "تيار المستقبل" لم يكن باستطاعة الحريري الشهيد تحملّها أكثر مما تحمّلها.

يشي كل ذلك بأنّ شهادة السنيورة لها تنتمي إلى هذا السياق، وتقود إلى مجموعة استنتاجات أهمّها: فؤاد السنيورة اعتلى منبر المحكمة، للانقلاب على الاعتدال السنيّ في "تيار المستقبل" والذي يمثّله سعد الحريري بوضوح تامّ، وثانيها محاولة تفجير الحوار مع "حزب الله"، وقد حاول أمس في جواب على المحامي أنطوان قرقماز متهيّبًا التنصّل بقوله بأنّه لم يتهم الحزب ولا هو في هذا الموقع، ويسأل مصدر سياسيّ كيف يمكن الدمج بين مفهومين متناقضين والتوليف بين ما نقله على لسان رفيق الحريري، وعدم الاتهام الشخصيّ أمام المحكمة فماذا تعني فرادة هجومه الدائم على الحزب ولماذا يشاؤها في ظلّ الواقع المتفجر وبخاصّة في اليمن والعراق وسوريا؟

بالعودة إلى المحكمة الدوليّة، ثمّة ما يدعو في الحقيقة للعجب، باتجاهها الصارخ للاكتفاء بشهادة أقطاب في فريق سياسيّ واحد، وعدم التوسّع باتجاه الفريق الآخر في مسرى العقل الهادئ والعدل الوازن. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لماذا لا يستدعى مؤلّف كتاب "النفاق الأميركيّ" عمران أدهم، وهو الذي خصّص في كتابه فصلاً خاصًّا باغتيال رفيق الحريري، عنونه على النحو التالي: "كوندوليزا قتلت الحريري"؟ وقد سبق في هذه الصفحة أن تمت الإشارة إلى هذا الفصل من خلال حوار جرى بين المؤلّف وشخصيّتين كبيرتين في وكالة الاستخبارات الأميركيّة هما ديفيد نيومن وجون بيركنز وقد كان أحد كبار المسؤولين فيها رويا له فيها بالتفصيل الدقيق القرار الذي اتخذه أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيليّ السابق بتصفيته وأقنع كوندوليزا رايس والتي كانت مستشارة الأمن القوميّ ومن ثمّ وزيرة الخارجية، بضرورة اغتياله لأنّه يشكل خطرًا بتبنّيه سلاح المقاومة وتشريعه على كل المستويات، والدفاع عنه امام المحافل الدوليّة، والحريري الأب فعلاً كان متبنّيًا لسلاح المقاومة منذ سنة 1996، وشرّعه في بيانات الحكومات التي ترأسها. والحافز الثاني لاغتياله بحسب الرواية لأنّه يشكل خطرًا على الاقتصاد الإسرائيليّ. وتظهر الرواية كيف أنّ رايس أقنعت بوش بضرورة تصفيته. السؤال المطروح وفي سياق شهادة السنيورة لماذا لا يدعى عمران أدهم ليؤكّد روايته، ألا يمكن اعتبارها قرينة، ولماذا لا تنظر المحكمة إلى احتمال ضلوع إسرائيل بهذا الاغتيال؟

ولا يمكن إجابة النائب فؤاد السنيورة إلا بأمرين:

1- اغتيال رفيق الحريري كان الأساس لتفجير لبنان والمنطقة بحروب مذهبيّة، مقدمتها تنفيذ القرار 1559، وهو يعرف ذلك كما يقول مصدر سياسيّ كبير.

2- الإصرار على الحوار، وتاليًا، على عودة سعد الحريري إلى لبنان والشروع نحو تسوية يكون فيها رئيسًا للحكومة مقابل انتخاب رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة، حتى يستمرّ لبنان بمنأى عن الإقليم المتفجّر، وما شهادة السنيورة سوى لغم معد لأخذ لبنان إلى فحوى هذا الانفجار.